مما لا تخطئه العين على الساحة العربية هو استحواذ المشهد السعودي اليوم، منذ عملية عاصفة الحزم وصولا إلى عملية رعد الشمال تحديدا، على أنظار المراقبين ومراكز القوى الدولية والإقليمية لِما أصبحت تلعبه المملكة من دور مركزي في الصراعات والتحولات التي تعرفها المنطقة الخليجية بشكل خاص، ومنطقة الشرق العربي بشكل عام.
التحول الوظيفي في الموقف السعودي إنما يعود رأسا إلى وعي جديد داخل دوائر القرار، منذ تولي الملك سلمان مقاليد السلطة بحجم المخاطر التي تحدق بمنطقة الخليج العربي باعتبارها قلب المنطقة العربية من ناحية، وبالمملكة العربية
السعودية باعتبارها قلب الخليج العربي من جهة ثانية، برمزيته الحضارية واللسانية والقيمية الإسلامية.
لا يمكن أن ننكر أن كل الأطماع الإمبراطورية المعاصرة في المشرق العربي منذ 1991 إنما تستهدف قلب الجزيرة العربية، سواء في المطامع الصهيونية التي تدرك رمزية إضعاف القلب العقائدي للأمة بعد إنهاك
مصر، أو الأطماع الصفوية التي تتبجح علنا بأنها تستهدف "تحرير مكة والمدينة من حكم آل سعود"، وتقصد بطبيعة الحال تحريرها من الحضور العربي، وإلحاق المدن المقدسة أي مكة والمدينة بنظام ولاية الفقيه في طهران.
الكارثة الكبرى ليست في وضوح هذه الأطماع الاستعمارية والتوسعية المعلنة على وسائل الإعلام الصهيونية والصفوية، وعلى الهواء مباشرة، بل أمّ الكوارث هو أن قسما كبيرا من النخب العربية المسلمة والملحقة بالمشروع الإيراني عن علم أو عن غفلة تستعيد نفس الخطاب المعادي للعرب وللمكون السني داخل الأمة.
المشروع الصفوي والمشروع الصهيوني هما وجهان لنفس المشروع التوسعي، وهو مشروع يقوم على جعل المنطقة العربية منطقة جاذبة للفوضى وطاردة للاستقرار، وهي الشروط الضرورية التي يتأسس عليها كل مشروع توسعي ذو بعد استعماري.
بناء عليه، فإن ما أحدثه الربيع العربي من تغيير مفاجئ ومزلزل ضرب أكثر الأنظمة العربية الاستبدادية رسوخا وثباتا مثل النظام المصري، والنظام الليبي، والنظام السوري، هو الذي دفع المشهد الذي وصفناه إلى السطح بعد أن كان يعتمل في الأعماق ولا تبدو منه سوى المشاهد المزيفة والأقنعة المضللة.
من كان يتصور مثلا أن يكون حزب الله الإيراني حصان طروادة داخل الأمة بعد أن نجح في تضليل الملايين بخطبه الحماسية، وشعاراته الرنانة، ولعنه لإسرائيل في العلن، في حين كان ملالي قُم ينسّقون معها في السر؟ من كان يتصور أن تكون سوريا محميّة إيرانية روسية ومقاطعة ملحقة بنظام الولي الفقيه وعصابات الأوليغارشيا في موسكو؟ من كان يتصور أن يسقط الشيطان الأصغر في حضن الشيطان الأكبر بعد كل التشويق الذي امتد عقودا حول المشروع النووي الإيراني الذي تُوّج بمصالحة القرن بين شعاري "الموت لأمريكا" من ناحية، و"محور الشر" من ناحية أخرى.
هذا الكشف الكبير الذي حققه الربيع للجماهير العربية هو أيضا كسب كبير للأنظمة التي تتحمل مسؤولية المستقبل الحضاري لأجيال بكاملها بعد أن أصبحت الأمة العربية اليوم وبفعل اتفاقية سايكس بيكو تتحرك داخل منطق الدولة الإقليمية لا داخل إطار الدولة الأمة مثلما هو حال القوى الإقليمية المجاورة كتركيا وإيران مثلا.
صحيح أن المملكة تتحرك اليوم باتجاه يقع خارج عين العاصفة الذي وقعت فيه منذ سقوط النظام العراقي السابق الذي كان رغم أخطائه الكارثية في الداخل والخارج بوّابة موصدة في وجه الفرس وأطماعهم التوسعية.
صحيح، أيضا، أن أخطاء كبيرة ارتُكبت في الماضي وكلّفت المملكة خسائر كبيرة خاصة من الناحية الجيوستراتيجية، حيث مكّنت عن سوء تقدير للأطماع الإيرانية من دخول المنطقة العربية ومحاصرة المملكة شمالا وجنوبا، وتهديد أطرافها الرخوة.
صحيح، أيضا، أن دعم الانقلاب المصري في عهد الملك الراحل "عبد الله"، رحمه الله، كان خطأ استراتيجيا فادحا لأنه منع المملكة من تكوين ظهير صلب في مصر يمنع التوغل الصهيوني من ناحية، ويردع الأطماع الإيرانية من ناحية أخرى، رغم كل النقد والمآخذ التي يمكن تسجيلها على الأداء السياسي لجماعة الإخوان المسلمين هناك.
مصر القوية بسيادة شعبها هي الضامن الرئيسي لاستقرار المملكة ولسلامة جبهتها الجنوبية والغربية، وهي صمام أمان لكل منطقة الخليج العربي. أما مصر الانقلابية، فهي نزيف لا يتوقف لكامل الخليج، وهي جبهة مفتوحة لكل أعداء الأمة، لأن تاريخ العسكر الدموي في مصر يثبت حجم عدائهم لمنطقة الخليج وللمملكة بشكل خاص منذ مغامرات "البكباشي عبناصر".
اليوم تشرع المملكة في تنفيذ تحول وظيفي لا يقتصر على الداخل السعودي بل يتعداه إلى المواقف المعلنة وغير المعلنة في علاقاتها الدولية والإقليمية من أجل استعادة الدور الذي كان عليها أن تضطلع به منذ عقود. يحمل هذا الدور آمالا كبيرة لشعوب المنطقة، خاصة أنه تزامن مع موجة تعاطف كبيرة مع القيادة الجديدة سواء عربيا أو إسلاميا، لأن المملكة تبقى مهما كان حجم الاختلاف مع بعض مواقفها "عاصمة القرار العربي" على حد وصف أحد الإعلاميين القطريين.
لكن من جهة أخرى، فإن المملكة لا تستطيع تنفيذ هذا الدور ولو في حده الأدنى دون التحرك الوظيفي داخل بنية من التحالفات الإقليمية بشروط شديدة التعقيد وبالغة الحساسية. فالتقارب التركي السعودي القطري،ـ الذي استبشر به الكثيرون خيرا، يمثل من وجهة نظر بنيوية قاعدة صلبة يمكن التأسيس عليها فعليا بعد تحييد الفاعل الانقلابي في مصر بحزمة المساعدات والحد من ضرره على المشروع السعودي عربيا وإقليميا وإسلاميا.
ترميم البيت الخليجي يمثل أيضا أولوية الأوليات في الرؤية السعودية لأنه ضمان على المدى البعيد يسمح بالتحصين الحقيقي للمنطقة من التغلغل الإيراني، خاصة عبر البوابات الداعمة للانقلابات والمضرة بشكل كبير بالبيت الخليجي بدعم الفوضى ومغامرات العسكر في نطاق ربيع الثورات في مصر وليبيا خاصة.
إن توجس المملكة السعودية من التغيير الذي قد يفسَّر بالتوقّي من المشاريع التفكيكية الكبرى دوليا، وهو توجس في محلّه أحيانا، لا يجب أن يكون مطلقا لأن الثورات العربية هي التي عرّت المشروع الإيراني في عيون الملايين من العرب والمسلمين، وهي التي غيرت بشكل كبير تصور الشعوب العربية وموقفها من النظام السعودي إيجابيا رغم الضعف الكبير والكارثي الذي يعاني منه الإعلام السعودي الخارجي من جهة الأداء.
تأسيسا على ما سبق، فإن مسؤولية كبيرة تقع على نظام الحكم السعودي اليوم بقيادة الملك سلمان من أجل وضع المملكة في مكانتها الحقيقية عربيا وإقليميا ودوليا، وهي مسؤولية تمثل رغم ما يحف بإنجازها من مخاطر ضرورة حتمية يمكنها أن تستفيد من الفواعل العربية النوعية مثل الفاعل القطري، أو الفواعل الإقليمية الناجحة مثل الفاعل التركي، بما يمثلانه من تجارب ناجحة في تصور النهضة أو في التعبير عنها ورصد شروطها.