بعد 68 عاما من النكبة المستمرة ثمة حقائق ينبغي الاعتراف بها، ودروس يتعين تمثلها، وبناء سياسة المواجهة على أساسها.
ولو شئنا مقاربة دقيقة للصراع في ذكرى النكبة لقلنا: ما زالت الأرض، وتفريغها، واستيطانها، وتهويدها، هي هدف إسرائيل الأول ومحرك سياساتها الأساس. فرفض وقف الاستيطان، والتلويح بضم الضفة، أو الانفصال الأُحادي عنها، يعني أن ربع قرنٍ من التفاوض لم يزد إسرائيل، نظاما وحكومات و"معارضات" وبنية مجتمعية واقتصادية وقانونية وثقافية وعسكرية وأمنية، إلا عنصرية وعدوانية وتوسعية، لدرجة أنها لم تعد تموه على هدفها الثابت "سلطة واحدة بين البحر والنهر".
أما العالم، عربا وعجما، فلم يرَ في غلو إسرائيل سوى "تهديد لحل الدولتين"، و"نهاية لعملية السلام"، وكأن هذا العالم لا يعرف أن إسرائيل ترفض كل حل يقوم على "التقسيم"، وأنها، بالتالي، لن تكف، طواعية، عن ممارسة "جوهر الصهيونية: الاستيطان"، بكلمات الصقر الليكودي شامير.
إن النظام الاستيطاني الاستعماري الصهيوني ماضٍ في استيطان وتهويد ما تبقى من فلسطين، وهو ما لا يترك متسعا لإقامة دولة فلسطينية.
وطالما أن الأمور كذلك وأكثر فيتعين إدراك أن ليس ثمة تسوية، (باتفاق)، في المدى المنظور، فما يهم إسرائيل هو إدارة الصراع، وضبط الوضع الفلسطيني، ومصادرة ما تبقى من أرض فلسطين، وتكريس الدينامية التفكيكية الاختزالية لفلسطين، الوطن والشعب والحقوق والثقافة التحررية، وطغيان المصالح الفصائلية والنخبوية والشخصية على المصلحة الوطنية.
لكن، لأن الشعب أبقى من النخب، ولأن صموده هو الصمود الحقيقي، فإن استمرار النكبة يعني استمرار المقاومة.
إن مجاهرة إسرائيل الآن بأنها لا تزال تريد "فلسطين يهودية كما هي إنجلترا إنجليزية"، لا تعدو كونها إزاحة للمعلن من الخطاب الصهيوني الزائف حول السلام، وتظهيرا لحدود الخلاف الفعلية بين تيار الصهيونية المناورة، تيار بن غوريون ووريثه حزب العمل، وتيار الصهيونية الصريحة، تيار جابوتنسكي ووريثه حزب الليكود، حليف الأحزاب الصهيونية الدينية التي باتت، بكل فاشيتها، في صدارة القرار السياسي والعسكري والأمني.
ولا عجب. فإسرائيل التي نشأت بعملية تطهير عرقي بشعة، العام 48، وتوسعت، بعدوان مبيت، العام 67، وباتت تسيطر على 85% من أرض فلسطين، وشردت 60% من أبناء شعبها، تندفع الآن نحو تحقيق المزيد من الأهداف الصهيونية، لدرجة أن ترفض مطلبيْن صغيريْن للمفاوض الفلسطيني، هما: إطلاق "دفعة من قدامى الأسرى"، (أي ليس تبييض السجون)، و"تجميد الاستيطان"، (أي ليس تفكيك المستوطنات وجلاء الاحتلال)، ما يُظهر الثمار المرة لقبول التفاوض مع استمرار الاستيطان، والثمار الأكثر مرارة للموافقة على مبدأ "تبادل الأراضي".
هذا يعني أن إسرائيل نتنياهو هي ذاتها إسرائيل بن غوريون التي اتخذت "هدنة"، (48 - 67)، فترة إعداد لاحتلال واستيطان وتهويد باقي أرض فلسطين، عدا سيناء المصرية التي أخلتها مجبرة وبشروط قاسية، والجولان السوري الذي ضمته، العام 81، وأعلنت، مؤخرا، أنها "ستحتفظ به للأبد".
ويعني، أيضا، أن إسرائيل نتنياهو هي ذاتها إسرائيل بن غوريون المارقة التي قبلت "قرار التقسيم" من باب المناورة والاحتيال على السياسة الدولية، ما يعني أن حروب واعتداءات إسرائيل، (وما أكثرها)، بدءا بحرب 48 وصولا إلى حرب 2014 على قطاع غزة، تشكل جزءا من حدث واحد كبير امتد طيلة قرنٍ، هو عمر ترسيم "الوعد الإلهي" المزعوم بـ"الوعد الاستعماري" المشؤوم، العام 1917.
وأكثر، إن إسرائيل نتنياهو هي ذاتها إسرائيل بن غوريون التي ابتاعت، بعد 15 عاما، فقط، على إنشائها، مفاعلا نوويا، استخدمته لأغراض عسكرية، وأبقته، (وسواه من أسلحة الدمار الشامل)، طي الكتمان، وأنتجت، حسب أقل التقديرات، 200 قنبلة نووية، فيما تكشَّف، في الآونة الأخيرة، أمر انتهاء العمر الزمني لهذا المفاعل، وعدم إمكان تصليح ما لحق به من عطب، ما يشكل خطرا فعليا على حياة البشر داخل فلسطين التاريخية، وفي محيطها العربي، بل وعلى حياة سكان المنطقة عموما.
لكن، رغم كل ما تقدم، وربما بفضله، ثمة سؤال، (سيستهجن كثيرون طرحه في ظل انقسامات الفلسطينيين المُدمرة، ومأساة العرب الكبرى، وثقة إسرائيل الفائضة)، هو: هل قامر هيرتسل عندما دعا يهود العالم، العام 1897، إلى تكثيف هجرتهم إلى فلسطين، (غير الخالية طبعا) لإقامة "دولة يهودية" فيها، وللدقة لتنفيذ أكبر وأبشع عملية سطو سياسي عرفها التاريخ الحديث والمعاصر؟! هذا سؤال كبير، شائك، ومعقد، لا يملك غير التاريخ إجابة حاسمة عليه. أما نحن، فلنكتفِ بتظهير المتاح من المؤشرات، وللدقة الحقائق، أبرزها:
أولا: إن 68 عاما من التطهير العرقي المُخطط هي بالضبط 68 عاما من المقاومة. ما يعني أن الشعب الفلسطيني الذي لم يرتدع طيلة قرن من المجازر والمذابح والفظاعات والجرائم الموصوفة، لن يستسلم، و"سيبقى يقاتل، جيلا بعد جيل، لتحرير فلسطين"، حسب الكلمات - النبوءة - التي أطلقها القائد الوطني الاستثنائي الشهيد عبد القادر الحسيني العام 47، عندما كانت فلسطين تعيش أحلك ظروفها، اتصالا بـ"زلزال" "قرار التقسيم" الظالم. يعني؟ لا الصراع انتهى، ولا الوطنية الفلسطينية ذابت، بل ما زالت متجذرة متأججة، فهي ما أن تهدأ حتى تعود وتنفجر، فتشعل "كامل السهل".
وهذا طبيعي لشعب يُستباح من أقصاه إلى أقصاه، ويُذبح، يوميا، من الوريد إلى الوريد. هذا عدا أن مطالبه عادلة ومعمدة بالتضحيات، ولا أحد يستطيع شطبه، ولا وطن له غير فلسطين.
ثانيا: الآن، (وليس بعد سنوات، مثلا)، لا توجد "أغلبية يهودية بين البحر والنهر"، بل هناك تعادل سكاني. يعني؟ وداعا لحلم إسرائيل اليهودية، فقد باتت خارج الممكن التاريخي والواقعي معا، فلا الشعب الفلسطيني فني، ولا حلم الصهيونية اكتمل.
أما تحقيق يهودية إسرائيل بعنجهية سردية "ستعيش إسرائيل على حد السيف إلى الأبد"، (نتنياهو)، و"إسرائيل إما أن تبقى دولة يهودية أو أن تصبح كومة نووية"، (باراك)، فتحصيل حاصل لخيالات سوداوية مريضة، أنتجها، ولا يزال، مشروع عنصري فاشي، أفرز أحزابا متعددة وصهيونية واحدة، يعلم قادتها اليوم أنه لا حل للصراع من دون تخليهم عن "لا لعودة اللاجئين"، وعن "لا تنازل عن القدس المُوحدة وعاصمة إسرائيل الأبدية"، وعن "لا اتفاق قبل الاعتراف بيهودية إسرائيل"، وعن مزاعم أن "الضفة هي يهودا والسامرة"، وأن "المسجد الأقصى هو الهيكل"، وأن "مناطق 67" "ليست أرضا محتلة"، ولا حتى "متنازعا عليها"، بل "جزء من أرض إسرائيل تم تحريره"!!!
ثالثا: بات واضحا، منذ سنوات، اتساع الهوة بين فائض الطموح الصهيوني وتآكل عوامل القوة الإسرائيلية. فلا الجيش الإسرائيلي عاد قادرا على تحقيق انتصارات خاطفة ومبهرة وحاسمة لا لبس فيها، ولا التأييد السياسي والدبلوماسي "الغربي" لإسرائيل، ظل مضمونا، (على بياض)، كما كان، ولا فزاعة أن كل نقد لإسرائيل يعني "لا سامية"، ظلت سارية المفعول كما كانت، ولا كذبة إسرائيل "واحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة"، ظلت مُصدقة كما كانت، ولا ثقة الإسرائيليين بقادتهم ظلت كما كانت، بعدما صار من النادر أن تجد قائدا إسرائيليا رفيع المستوى غير فاسد أو تحوم حوله شبهة فساد، ولا لحمة التناقضات الإسرائيلية الداخلية، ظلت متينة كما كانت، فتطبيقات سياسات "الليبرالية الجديدة" والخصخصة فعلت فعلها، وجعلت الهوة الطبقية بين الإسرائيليين خيالية، أما حدة الخلافات بين العلماني والديني، و"الشرقي" و"الغربي"، ومستوطني الضفة ونظرائهم في "مناطق 48"، ويهود إسرائيل ونظرائهم في العالم، فحدث ولا حرج.
رابعا: إن مواقف الشعوب العربية من فلسطين في وادٍ غير وادي مواقف أغلب حكامها الذين يهبون إسرائيل عامل قوة مجانيا عبر اختلاق أعداء وهميين للعرب، وكأن إسرائيل لا تحتل فلسطين، أو كأنها ليست مصدر التهديد الأول للأمة العربية ودولها، ولحركة شعوبها للتحرر والتغيير والتقدم الاجتماعي والاقتصادي، أو كأنها ليست نقطة المراقبة الثابتة، وموقعَ الحماية الدائم لمصالح "الغرب" الاستعماري الإمبريالي في الوطن العربي. يعني؟ على إسرائيل ألا تراهن كثيرا على اختراق الذاكرة الشعبية العربية؛ لأنها ذاكرة حية، بينما الجرائم الإسرائيلية بحق كل العرب، لا الفلسطينيين، فحسب، هي من فرط بشاعتها، لا يستطيع أحد أن يمحوها من العقل والوجدان والضمير الشعبي العربي.