تستنسخ السلطة في مصر أدوات قمعها، فيستنسخ الناس شكل استسلامهم، ولهذا تتكرر الجرائم، ويصبح "التاريخ" مجرد سجل من صفحات معادة، لا من رآها يقرؤها، ولا من قرأها يتعلم منها، ومنها صفحات حرائق القاهرة، التي تشتعل دائما بيد السلطة ولمصلحتها، لكن "من يقرأ؟ ومن يسمع؟".
كان "الحاكم بأمر الله" أول من أحرق القاهرة، عقابا لأهلها على أنهم لم يؤمنوا بنبوته -وربما ألوهيته- المدعاة، التي سخر منها أحدهم قبل الحريق، بأن علق على كرسي "الحاكم" بطاقة كتب عليها:
بالجور والظلم قد رضينا*
وليس بالكفرِ والحماقةْ
إن كنتَ أوتيتَ علمَ غيبٍ
بَيِّنْ لنا كاتبَ البطاقةْ
ويحدثنا "ابن إياس" أن "الحاكم" أطلق عبيده ومواليه يقتلون وينهبون، فاستجار الشعب بالعلماء، الذين ذهبوا يتوسلون للحاكم، ليتوقف بعد أن أحرق ثلث القاهرة.
وفي يوم السبت 26 من يناير 1952، أحرقت سلطة "الاحتلال البريطاني والملك" نحو 700 منشأة في القاهرة، ردا على المظاهرات والإضرابات التي عمت العاصمة وامتدت إلى غيرها، ضمن المقاومة الشعبية لقوات الاحتلال، وهو ما "استنسخته" السلطة بعد ذلك في حريق القاهرة مايو 2016، حيث تندلع النار في أيام العطلات لتلتهم المحال التجارية المغلقة، و"تتباطأ" قوات الإطفاء (رغم أن حريق العتبة على بعد أمتار من إدارة مطافئ القاهرة) وتفرض الرقابة على الصحف حتى لا تنقل عن "شهود العيان" تأكيدهم أن "الحريق تم بفعل فاعل وبأيد مدربة"، وهو ما قاله شهود حريق 1952، وحريق مجلس الشورى 2008، وحريق المجمع العلمي 2011، وحرائق الرويعي والغورية وغيرهما 2016.
في 1952، غادر موظفو الشركات الإنجليزية مكاتبهم قبل الحريق بساعات، ونقل بنك باركليز جميع تعاملاته من قصر النيل إلى الموسكي قبل الحريق بيوم واحد، وخلا النادي الإنجليزي من الرواد، ونصح "الجنرال أرسكين" أصدقاءه بمغادرة القاهرة قبل 26 من يناير ببضعة أيام قليلة.
وعندما ذهب وزير الداخلية "فؤاد سراج الدين" للاستنجاد بقائد الجيش "محمد حيدر"، اضطر لانتظاره طويلا في غرفة رئيس الديوان الملكي "حافظ عفيفي"، الذي رد على استنجاد "سراج الدين" بأن سأله: "هل تنوون فعلا قطع العلاقات مع بريطانيا؟ لقد أخبرني السفير البريطاني بذلك"!
سؤال معناه الواضح: تحترق القاهرة ولا تقطع أواصر السلطة، ومع ذلك لا يزال هناك من يدعي البلاهة ويسأل عمن يحرق القاهرة!
* يقول الشاعر "بالجور والظلم قد رضينا"، كأن الرضا بالظلم أمر مفروغ منه، بينما هو "ذل" و"عبودية" لم ينهض أحد للرد عليهما منذ قيل هذا البيت قبل ألف سنة، ولعله "رضا" آخر يفسر تكرار الظلم.