عندما اجتمع مسؤولون من منظمة البلدان المصدرة للبترول (
أوبك)، هذا الأسبوع، لصياغة استراتيجية طويلة المدى، توقع عدد قليل من الحضور أن تنتهي المناقشات دون صدام. لكن حتى أكثر المندوبين تشاؤما حصلوا على أكثر مما راهنوا عليه.
ونقل مصدران حضرا الاجتماع الذي عقد في فيينا، أو اطلعا على ما جرى فيه، عن أحد المسؤولين المحبطين قوله: "أوبك ماتت".
وهذا بعيد عن أن يكون المرة الأولى التي يعلن فيها زوال أوبك في تاريخها الذي مضى عليه 56 عاما، كما أن المنظمة نفسها قد تنعم بعمر مديد في عهد
النفط الرخيص.
ولا تزال
السعودية -أقوى أعضاء أوبك نفوذا- متمسكة بموقفها بأن التحرك الجماعي لكل المنتجين هو الحل الأمثل لسوق النفط التي هوت منذ منتصف 2014.
غير أن ما حدث في اجتماع مندوبي أوبك يوم الاثنين يشير إلى أنه إذا مضت المملكة في نهجها فسيؤدي هذا إلى كتابة شهادة وفاة لإحدى الاستراتيجيات الرئيسية للمنظمة، المتمثلة في إدارة أسعار النفط العالمية من خلال تنظيم المعروض.
وفي تحول كبير في الفكر، تعتقد الرياض حاليا أن استهداف مستوى محدد للأسعار بات بلا فائدة؛ لأن ضعف السوق العالمية يعكس تغيرات هيكلية أكثر من كونه اتجاها مؤقتا، وذلك وفق ما ذكرته مصادر مطلعة على وجهات النظر السعودية.
وأوبك منقسمة بالفعل بشأن كيفية التعامل مع انخفاض أسعار النفط. وتسبب التوتر بين السعودية ومنافستها اللدودة إيران في انهيار أول اتفاق في 15 عاما لتجميد إنتاج الخام للمساعدة في تعزيز الأسعار العالمية.
وطفت تلك التوترات على السطح مجددا في اجتماع مجلس محافظي أوبك، الذي يضع الاستراتيجية طويلة المدى، ويشارك فيه مندوبو الدول الأعضاء الذين يرفعون تقاريرهم إلى وزراء النفط في بلدانهم.
وقالت المصادر إن المندوب الذي أعلن موت أوبك كان من بلد غير دول الخليج العربية، وكانت تصريحاته موجهة إلى ممثل السعودية، بينما كانا يتجادلان بشأن ما إذا كان ينبغي للمنظمة مواصلة سياسة استهداف مستويات سعرية.
وتقول إيران -التي مثلها مندوبها حسين كاظم بور أردبيلي- إن هذا بالتحديد هو ما تأسست المنظمة من أجله، وبالتالي فإن "الإدارة الفعالة للإنتاج" ينبغي أن تكون أحد أهدافها طويلة الأمد.
لكن المصادر تقول إن مندوب السعودية محمد الماضي قال إنه يعتقد أن العالم تغير كثيرا في السنوات القليلة الماضية، لدرجة أن محاولة فعل هذا أصبحت أمرا لا طائل من ورائه.
ونقلت مصادر مطلعة على المناقشات عن الماضي قوله لنظرائه أثناء الاجتماع: "ينبغي لأوبك أن تدرك حقيقة أن السوق شهدت تغيرات هيكلية.. وهو ما يتضح في أن السوق تصبح تنافسية أكثر من أن تكون احتكارية".
وذكرت المصادر أيضا أن الماضي قال: "تطورت السوق منذ فترة الأسعار المرتفعة في 2010-2014 والتحدي أمام أوبك الآن، وأيضا أمام (المنتجين) خارج أوبك، هو استيعاب التطورات التي شهدتها السوق في الآونة الأخيرة".
وعلى مدى عقود كانت السعودية تتبنى مستوى مستهدفا لسعر النفط، وإذا لم يكن المستوى السائد بالسوق يروق لها فإنها كانت تحاول تنسيق خفض أو زيادة في إنتاج أوبك. وكانت المملكة تساهم بنصيب الأسد في الزيادة أو النقصان، وتتسامح مع الأعضاء الأصغر والأفقر إذا تقاعسوا عن الالتزام باتفاق المنظمة.
وفي 2008، حدد العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله السعر "العادل" للنفط من وجهة نظر المملكة عند 75 دولارا للبرميل، وكان ذلك على الأرجح عقب مشاورات مع وزير البترول علي النعيمي.
وعندما رتب السعوديون آخر خفض للإنتاج في 2008 -لدعم الأسعار أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية- قفز سعر الخام بسرعة كبيرة، ليتجاوز 100 دولار للبرميل من أقل من 40 دولارا. وأعلنت الرياض مجددا السعر الذي تفضله في بضع مناسبات، لكنها توقفت فعليا في السنوات القليلة الماضية عن إرسال أي إشارات بشأن هذا.
يأتي هذا عقب التغيرات الجوهرية في أسواق النفط. ففي السنوات الخمس الماضية تطور إنتاج النفط غير التقليدي من مكامن النفط الصخري الأمريكية ومصادر أخرى مثل الرمال النفطية في كندا، وهو ما جعل فكرة أن الخام مورد نادر ومحدود فكرة غير مؤثرة. وساهمت روسيا -غير المنتمية لأوبك- أيضا في تخمة المعروض العالمي.
والتخلي عن الأهداف السعرية يمثل تغيرا هائلا في الفكر السعودي. وهذا التغير يحركه حاليا إلى حد بعيد ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، البالغ من العمر 31 عاما، والذي أصبح في العام الماضي صانع القرار النهائي لسياسات الطاقة والسياسات الاقتصادية بالمملكة.
وقالت مصادر مطلعة على الفكر السعودي إنه عندما كان الخام يعتبر موردا نادرا كانت المملكة تعتقد أن عليها تعظيم إيراداتها في المدى الطويل، حتى إذا كان هذا يعني خفض الإنتاج والتخلي عن حصة بالسوق لمنتجين منافسين.
وذكرت المصادر أنه مع تراجع أهمية النفط قررت المملكة أن من الأصوب إعطاء الأولوية للحصة السوقية.
وتعتقد الرياض أن زيادة الإنتاج بالأسعار الحالية المنخفضة ستكون أفضل من خفض الإنتاج، وهو ما يؤدي إلى بيع الخام بأسعار أقل في المستقبل مع انحسار الطلب العالمي.
وعلاوة على ذلك، تواجه المملكة احتياجات ملحة في المدى القريب، منها التصدي لعجز في الميزانية بلغ 367 مليار ريال (97.9 مليار دولار) أو 15 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2015.
وقال مصدر مطلع على وجهة النظر السعودية في اجتماع مندوبي أوبك: "نسبيا، فإن قطاع النفط لم يعد قطاع نمو".
وفي السابق، كان انخفاض أسعار النفط يرفع في العادة الطلب العالمي، لكن تزايد كفاءة استهلاك السيارات في الوقت الحالي والتكنولوجيا الجديدة والسياسات البيئية وضعت حدا للنمو.
ورغم انخفاض الأسعار إلى مستويات قياسية في العام المنصرم، فمن غير المتوقع أن ينمو الطلب بأكثر من مليون برميل يوميا في 2016، بما يشكل واحدا بالمئة فقط من الطلب العالمي.
وتقول مصادر سعودية إن الشيء المؤكد هو أن المملكة لن تعود قريبا إلى النمط القديم القائم على خفض الإنتاج لدعم الأسعار من أجل مصلحة جميع المنتجين.
ونقلت المصادر عن الماضي قوله في اجتماع الاثنين: "النتيجة الحاسمة هي أنه لن تكون هناك مكاسب مجانية (للآخرين) بعد الآن". وأبلغ زملاءه: "ينبغي لبعض أعضاء أوبك أن يفعلوا أولا ما يطالبون الآخرين بفعله".
وحتى منافسي الرياض يشككون في إمكانية أن تتراجع عن موقفها. وقال مصدر في أوبك من خارج دول الخليج: "لم تعد السعودية تلقي بالا لأوبك. إنهم يركزون اهتمامهم على النفط الصخري الأمريكي والرمال النفطية الكندية وروسيا".