كان حوار محب الدين الخطيب مع
حسن البنا سنة 1947م، الذي ذكرناه في مقالنا السابق، جرس تنبيه للبنا والإخوان، في إعادة التفكير في دخول الجماعة مجال السياسة دون إعداد كاف، وبدأت
مراجعات البنا حول الأمر، بل ولقاءاته مع كل من له عناية بالعمل السياسي والتربوي، وكانت فرصة ذهاب حسن البنا للحج سنة 1948م ولقائه بشخصيات مهمة، لإعادة التفكير في أمورة كثيرة، وعلى رأسها العمل السياسي ودخول الجماعة معتركه.
يقول الدكتور عبد العزيز كامل في مذكراته عن خريف 1948م، والذي كان مسؤول التربية في الإخوان المسلمين وقتها، وكان من أقرب الناس للبنا، وهو آخر شخص في جماعة الإخوان التقاه قبل وفاته، يقول: (عاد الأستاذ المرشد من أداء فريضة الحج بفكر جديد، لم يكن يخفيه، ولا يخفي الذين تأثر بهم..
وأود أن أسجل هنا اسم الحاج عبد الستار سيت سفير باكستان في القاهرة وقتئذ..
لقد كان رجلا هادئا، رضي النفس، مؤمنا بالعمل الهادئ طويل النفس، وكان يخشى على الإخوان عواقب الخطوات العنيفة التي اتخذوها، وأخذ يذكر للأستاذ ما اتبعوه في بلاده من عناية بتربية الشباب، واختيار العناصر التي يرجى لها مستقبل في الحياة العامة، أو يمكن أن يسمّى الجيل المقبل من القادة.. ولم يكن هؤلاء بعيدين عن شخصيات في الحكم بحكم النشأة، فقوي في نفس الأستاذ الاتجاه نحو التربية..
ولكن الرجل عاد ليجد حوادث القنابل والانفجارات في القاهرة، سلسلة توالت حلقاتها: انفجار ممر شيكوريل، شركة الإعلانات الشرقية، حارة اليهود. وإلى جوار الانفجارات: مصرع المستشار الخازندار من رجال القضاء، ومصرع سليم زكي من رجال الأمن.
ملامح الصورة يرسمها المسدس والقنبلة والديناميت.
وكانت ملامح القلق بادية على وجهه، حتى المحاضرات، وزيارات الأقاليم زهد فيها.
بأذني سمعت منه وصف هذه الاحتفالات العامة بأنها (شغل دكاكيني) أي عمل صغير متفرق لا قيمة له
.
ويأتي مصرع النقراشي باشا رئيس الحكومة المصرية ليضع الأستاذ في أشد المواقف حرجا.
كان كل أمله -كما سمعت ذلك منه بنفسي- أن يخلص باسم الإخوان المسلمين ومئة شاب "أربيهم ينتشرون في الأرض، داعين إلى الإسلام، ويجادلون الله عني يوم القيامة.. حين يسألني أقول: يا رب ربيت هؤلاء، ونشرتهم في الأرض يدعون إلى دينك".
حصاد العمر الطويل: آلاف الشُّعَب، وآلاف المعسكرات، وآلاف الحفلات، والجرائد، والمجلات، والمنشورات، تركز عنده في مئة شاب يلقى الله بهم). انظر: مذكرات عبد العزيز كامل (في نهر الحياة) ص 59،58.
ولم يكن ما نقله عبد العزيز كامل عن حسن البنا، مرة عابرة، أو فكرة طارئة عند البنا، بل يبدو أنها كانت فكرة محورية لديه، تركزت وتعمقت، ورسخت في ذهنه، بناء على مراجعات طويلة، وممن نقل رغبة البنا في ترك السياسة التي دخلها بلا استعداد كبير: العلامة المرحوم أبو الحسن الندوي، في مذكراته، وقد ذكرها بمناسبة زيارته لمصر بعد وفاة حسن البنا بعام ونصف، فكتب يقول: (علمت من عدد من المصادر الصحيحة التي يعتمد عليها: أن الإمام حسن البنا كان يتأسف في آخر أيام من حياته ويتألم من أنه اضطر للدخول في المجال السياسي قبل أوانه، وأحاط به الطريق الشائك، وأنه كان يتمنى كثيرا إلى أن يعود -مرة ثانية- إلى العمل الدعوي التربوي الخالص، ويجد فرصة كافية لإعداد الجماعة، وتربية المسلمين حتى يستطيعوا القيام بكل مسؤولية تناط بهم، ويمر بكل محن يصابون بها، وبلاء يختبرون به بسلام آمنين). انظر: في مسيرة الحياة لأبي الحسن الندوي الجزء الأول ص 235،234.
وتستمر مراجعات البنا حول عمل الجماعة السياسي، وهو ما نكمله في مقالنا المقبل إن شاء الله.
[email protected]