رغم ضغوط أمريكية مكثفة على
العراق للتحرك من أجل الحيلولة دون انهيار أكبر سد في البلاد، فإنها لم تفعل بغداد شيئا لتهيئة العراقيين لاحتمال حدوث الانهيار وتدفق طوفان من المياه حتى العاصمة ومقتل مئات الآلاف.
وفي الشهر الماضي، وقعت الحكومة عقدا بقيمة 296 مليون دولار مع مجموعة تريفي الإيطالية لتدعيم سد
الموصل في شمال العراق. لكنها لم تعلن أي خطط محددة لمحاولة إنقاذ الناس في حالة انهياره ولم تصدر تعليمات تفصيلية عن كيفية التصرف على نحو آمن.
وكان أبرز تصريح علني من جانب رئيس الوزراء حيدر
العبادي عن السد -والذي لم ينشر على نطاق واسع- نصحه للملايين الذين يعيشون في مسار الطوفان المحتمل أن ينتقلوا إلى أرض مرتفعة، لكنه لم يسرد تفاصيل تذكر.
وقال مسؤولون أمريكيون إن واشنطن تشعر بأن بغداد لم تأخذ هذا الخطر على محمل الجد بما يكفي.
وذكرت وثيقة حكومية أمريكية في أواخر شباط/ فبراير أن عددا يتراوح بين 500 ألف و1.47 مليون عراقي يعيشون في المناطق الأكثر عرضة للخطر على امتداد نهر دجلة، لن يبقوا على قيد الحياة على الأرجح من جراء الفيضان ما لم يتم إجلاؤهم.
وقالت الوثيقة إن الطوفان سيجرف لمئات الأميال قذائف حربية لم تنفجر وكيماويات وجثثا ومباني.
وقال مسؤول كبير بالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، إنه يمكن إنقاذ النسبة الأكبر من الأرواح بتوجيه النصح للناس عما يجب أن يفعلوه في حالة انهيار السد الذي افتتح في منتصف الثمانينيات وكان يعرف باسم سد صدام.
وقال المسؤول: "نريد أن نتأكد من أنه عندما يكون هناك خطر كبير فإن السكان الذين يحتمل أن يتأثروا هم على علم بذلك وأنهم يعرفون ما الذي يتعين عليهم عمله إذا ما حدث ذلك وأنهم يفهمون كيف سيتم تنبيههم".
وبدلا من ذلك، فقد هونت السلطات العراقية من الخطر. وأفادت تقديرات لوزير المياه الشهر الماضي بأن فرص انهيار السد لا تزيد على واحد في الألف، وهو مستوى خطر موجود في كل سدود العالم.
واجتمع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يوم 21 كانون الثاني/ يناير مع العبادي في دافوس بسويسرا، وسلمه مذكرة سرية من الرئيس باراك أوباما تناشده العمل بشكل عاجل.
ويظهر التدخل الشخصي للرئيس كيف انتقلت مخاطر انهيار السد إلى صدارة مخاوف الولايات المتحدة في ما يتعلق بالعراق، كما أنه يعكس خوفها من أن يقوض انهيار السد الجهود الأمريكية لتحقيق الاستقرار لحكومة العبادي ويعقد محاربة تنظيم الدولة.
وشنت القوات العراقية هجوما جديدا الأسبوع الماضي في منطقة مخمور على مسافة 60 كيلومترا جنوبي الموصل في مستهل حملة أوسع نطاقا لتطهير المناطق المحيطة بالمدينة، لكن التقدم محدود حتى الآن.
الكابوس اللوجيستي
ولا توجد إشارات على خرق وشيك لجسم السد، لكن هيكله بني على ما وصفه مسؤول أمريكي بارز بأنه "المعادل الجيولوجي للجبن السويسري".
وقال مصدر حكومي مطلع على خطط
سد الموصل إن بغداد حدثت في العام الماضي خطة إخلاء وضعت عام 2006 تدعو إلى نقل السكان إلى المحافظات الجنوبية.
وقال المصدر إن الأثر الإنساني سيكون "كابوسا لوجيستيا.. مياه ودورات مياه وغذاء. وإذا حدث ذلك في الصيف فستحتاج لإبعادهم عن الشمس. وإذا حدث في الشتاء فستحتاج لتدفئتهم".
وتابع المصدر بأن الحكومة خططت لوضع نظام إنذار في المناطق الأكثر تهديدا واستخدام الإذاعة والتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي والرسائل النصية لإعلام الناس بما سيحدث وكيفية الاستعداد له. وحتى الآن لم يحدث أي من ذلك.
وقال المصدر الحكومي لرويترز، إن الحكومة العراقية تشاورت مع القيادة العسكرية بشأن كيفية إجلاء الملايين من منازلهم لكنها قررت بعد ذلك ترك أمر إبلاغ السكان للسلطات المحلية.
وأضاف: "فيما يتعلق بتوصيل كل ذلك للناس لا أعتقد أن ذلك سيحدث ما لم يكن هناك خطر وشيك بأن السد سيتحطم في أي لحظة".
وقال المصدر إن الحكومة تشعر أن الخطر تراجع بتوقيعها عقد إصلاح السد وتخشى أن يثير التحذير المبكر قلقا لا داعي له بين الناس الذين يواجهون بالفعل تهديدات أمنية مستمرة.
وأضاف: "ينظر للأمر على أنه غير ضروري ويضاف إلى التوترات التي نواجهها بالفعل".
وقال بول سالم نائب رئيس معهد الشرق الأوسط وهو مركز دراسات مقره واشنطن إن الثقافة السائدة تفسر ولو جانب من موقف بغداد تجاه السد.
وقال إن "أسلوب أمريكا في إدارة الأزمة هو أن من الأفضل أن تأمن بدلا من أن تحزن، لكن أسلوب العرب هو ألا تتحدث عن البلاء قبل وقوعه".
وقال سامي خلف الذي يملك متجرا في بغداد، إنه لا يشعر بالقلق بشأن فيضان السد ولا يعرف أحدا يشعر بالقلق. وقال: "الناس أكثر انشغالا بالسياسة عنها بالموصل أو السد... ولو كان الأمر صحيحا لكانت هناك تحذيرات أكثر انتظاما".
لعبة إلقاء اللوم
بدأت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي العمل مع الحكومة العراقية منذ أسابيع، لوضع جهاز إنذار مبكر باستخدام صفارات الإنذار وآليات أخرى، لكن ذلك ليس جاهزا بعد ولم يتم فعل شيء آخر لتهيئة السكان.
وقال دبلوماسي بارز في بغداد، إن الحكومة الأمريكية قلقة من بطء بغداد في إبلاغ المدنيين بشأن الخطر المحتمل.
وأضاف أن "الاختلاف يتمثل في كيفية تبرير عدم رؤيتك للأمر... هل تبرره بحقيقة أن وجود الحكومة نفسه يواجه خطرا أم تبرره مثل الأمريكيين بأن العراقيين متباطئون؟".
وما زال العراق يقاتل تنظيم الدولة على عدة جبهات ويواجه الآن أزمة سياسية هذا الشهر مع تعرض العبادي لضغوط لإعادة تشكيل حكومته من أجل القضاء على المحسوبية والفساد.
وقال مسؤولون ومحللون أمريكيون وعراقيون، إن مساعي إصلاح السد الواقع على بعد نحو 48 كيلومترا إلى الشمال الغربي من مدينة الموصل تعطلت بسبب الفوضى التي تسود الوضع الأمني في العراق والانقسامات السياسية في بغداد، بالإضافة إلى عدم تحقق إنذارات سابقة على مدى سنوات وكذلك بسبب الاختلاف الثقافي.
وتجددت المخاوف التي تملكت واشنطن من أن تفجر القوات العراقية السد أثناء الغزو الذي قادته في العراق في عام 2003، وعادت للظهور في 2014، عندما سيطر تنظيم الدولة لفترة وجيزة على السد قبل أن يبتعد تحت وطأة غارات التحالف الجوية وهجمات قوات البشمركة الكردية.
ويشير بعض المسؤولين العراقيين إلى أن الولايات المتحدة تبالغ في تقدير خطر السد لتحويل اللوم عنها في حالة انهياره وإلقائه على عاتق تنظيم الدولة، بعدما أخفقت -كما يقولون- في إيجاد حل دائم خلال عشر سنوات من احتلال قواتها للعراق.
وعرض العبادي في بيان على موقعه الإلكتروني مراجعة لوضع السد وخطط حكومته لإصلاحه.
طرح تصورا محتملا لانهيار السد تغمر فيه موجة بارتفاع 15 مترا أجزاء من الموصل خلال أربع ساعات. وقال إن المياه قد تصل إلى تكريت في اليوم التالي، وربما تصل موجة ارتفاعها عشرة أمتار إلى العاصمة بغداد بحلول اليوم الرابع.
والنصيحة الوحيدة للسكان هي الابتعاد مسافة ستة كيلومترات عن النهر. وقال المصدر الحكومي: "لا أعتقد أنه سيكون هناك أكثر من ذلك... الهدف هو القول: أعلنا على الأقل الأمر على ناس في مكان ما".