لو كانت المنظومة العربية التي اختارت أحمد أبو الغيط أمينا عاما لما يسمّى بالجامعة العربية واعية باختيارها، وأرادت به التعبير عن أحوالها الراهنة، لاستحقت تقديرا خاصا على هذا الوعي بالرجل الأكثر تعبيرا عن أوضاعها بالغة التركيب في هذه اللحظة الزمنية بالغة التعقيد، وبالصورة التي تتكثّف فيها المفارقة المذهلة حينما يعبّر الاختيار عن الشيء ونقيضه في الرجل نفسه.
لا يوجد أحسن من أبو الغيط لسانا مشرعا ممدودا في وجه حركة الشعوب وخارجا من فم هذه المنظومة، الساخر بقهقهته الكريهة من إرادة النّاس وسعيهم إلى الحرية والتغيير، فأمين جامعة الدول العربية الآن، هو الوجه الدبلوماسي السابق لنظام حسني مبارك في عقده الأخير، وإن كان ظلا باهتا لمدير المخابرات العامة المصرية، الراحل عمر سليمان، وربما لولا تصريحاته الفخورة عن كسر أرجل الفلسطينيين، ومشهديته الودودة حينما أعلنت تسيفي ليفني من القاهرة عن عدوان 2008/ 2009 على
غزة أثناء اجتماعها به، وتصريحه عن تعطيل قمة غزة التي عقدت في الدوحة إبّان ذلك العدوان، لما درى به أحد.
وهكذا، في لحظة ردة عربية اغتر بها أربابها، وظنوها كاسحة، لا أحسن، لأمانة
الجامعة العربية، من رجل تولى وزارة الخارجية في السنوات السبع الأخيرة من عمر النظام الأصيل والركين في منظومة الاستبداد والتبعية العربية، وهو النظام الذي حظي بالقسط الأوفر من كراهية الشعوب، وإذا كانت هذه المنظومة، وبعدما تعرضت لهزة مفاجئة وعميقة مع الثورات العربية، قد أرادت باختيار أحمد أبو الغيط الإعلان عن انتصارها على حركة الشعوب، وعودتها كما كانت، بالتأكيد على استمرار العهود القديمة، عهود الاستبداد والقهر والتبعية للاستعمار، فقد أحسنت الاختيار.
وإذا كانت تودّ التأكيد على جملة من العناصر الثابتة في بنيتها، وفي مقدمتها طبيعتها القهرية المتجسدة في أجهزة الأمن والمخابرات، فليس أحسن من دبلوماسي باهت، عاش ظلا لمدير المخابرات العامة، وكأنه موظف من الدرجة الثانية، فالأمن بطابعه الاستبدادي هو المعنى الذي لا يزال حاكما للمجال العربي كله، وبصورته الحسية تحكم أجهزة الأمن أكثر من بلد عربي مباشرة، ويغني عن التعداد والاستشهاد الاكتفاء بالبلد العربي الأكثر تخمة بالبشر، المحكوم من كائن قادم من المخابرات الحربية، وقد انتخب برلمانه أخيرا بأجهزة أمنه، كما أفادت مقالة كتبها حسام بهجت في موقع مدى مصر الإلكتروني، بعنوان: "هكذا انتخب السيسي برلمانه"، تماما كما ينتخب كل شيء في بلده بأجهزة أمنه، وكما يحوّل الملايين إلى قطعان من المخبرين والأذلاء؛ حيث تحوّل البلد كله، بمجالاته وحقوله كلها، إلى محض انعكاس للبنية التحتية الصلبة المتمثلة بأجهزة الأمن، وكذا حال بلاد عربية أخرى، وإن كان أقل فجاجة، فحق امتياز الفجاجة محفوظ لمصر.
وإذا كان من جملة تلك العناصر، الدور الوظيفي للمنظومة الإقليمية العربية، بما هي نتاج الحالة الاستعمارية التي استغرقت بلاد العرب كلهم، وبما يحول دون توفّر إرادة عربية حرّة من شأنها أن تسمح للعرب بتحديد خياراتهم، وأن تخرج بهم من درك المفعولية إلى صفوف الفاعلية، وأن تستأنف دورهم الحضاري، كمرشّح وحيد يمتلك مقومات المواجهة الحضارية مع الغرب، وفي السياق إنهاء الوضع الاستعماري المسمّى "إسرائيل"؛ فإن أبو الغيط، صاحب العلامة الوحيدة الفارقة في تاريخه الدبلوماسي، المتمثلة في تصريحه الشهير عن كسر أرجل الفلسطينيين المحاصرين في غزة، هو الخيار الأنسب للتعبير عن هذا العنصر، ولا سيما مع استحكام حصار غزة، وتخلي العرب عن أي دور تجاه فلسطين مهما كان شكليا، وسُكْرِ بعضهم الهاذي بإمكان التحالف مع "إسرائيل" في مواجهة إيران، في انفصال عميق عن حقائق الواقع والتاريخ، وفي تنكر وضيع لمأساة الفلسطينيين الذين ساهم هؤلاء العرب مساهمة كبرى في صنعها.
وطالما أن العُرف، وعادة العرب في تملّق مصر، (وهي عادة عربية خبيثة تعرف أن أكل الكتف المصرية يأتي من دغدغة نرجسية الحكومات المصرية الشوهاء)، يمنح أمانة الجامعة العربية لمصر، فلا بدّ وأن يشبه الأمينُ العام بلده المريض، ظلا للطاغية، الذي يقول: "أنا عارف مصر زي ما أنا شايفكم كلكم قدامي كدا، وعارف علاجها برضو زي ما أنا شايفكم قدامي كدا، وأنا بقول الكلام دا لكل اللي بسمعني في مصر: لو سمحتم متسمعوش كلام حد غيري"، في نمط من تدني الخطاب الطغياني وهو يحاول استدعاء المقولة الفرعونية: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، وقد كان أبو الغيط النموذج الأفضل دائما لمعنى الظل الباهت.
وكان أبو الغيط كذلك الأنسب لإفراط نظام السيسي في تهييج الشوفينية المصرية واستخدام تمركز المصريين حول أنفسهم، لحشد قطاعات من الشعب حوله، باستثارتهم ضد أعداء مختلقين، وفي طليعتهم محاصرو غزة وشعب فلسطين، فإلى ماذا كان يستند أبو الغيط وهو يهدد بكسر أرجل الفلسطينيين سوى إلى هذه النزعة المتقيّحة؟! وهو في السياق نفسه، يشبه نظام السيسي أيضا في كونه خيارا "إسرائيليا"، فكائن اللحظات الودودة مع ليفني وهي تعلن الحرب على غزة في العام 2008؛ ممثل النظام الذي كان أشدّ بأسا على غزة قبل حرب العام 2014 وبعدها، وهو في ذلك كله مجرم حرب بحسب تعريف نبيل العربي (كما قال في مطلع الثورات العربية عن حصار نظام مبارك لغزة)، ولكن تأبى بقية الأنظمة العربية إلا وأن تتقاسم الخزي وجريمة الحرب باختيارها لأبو الغيط!
في الجانب المقابل، كان أبو الغيط خاتمة عهد مبارك، ووجها من وجوه سنواته القلقة، وقد راكمت غضبها وأسباب الانفجار حتى كانت ثورة 25 يناير، فإذا كان العرب يريدون بأبو الغيط لسانا ساخرا من حركة الشعوب، ودليلا على استئناف العهود القديمة، فإنهم اختاروا خاتمة عهد قديم، ووجه سنوات قلقة، وسواء كانوا واعين بهذه المفارقة أم لا، فقد أحسنوا الاختيار، ومنحونا شيئا من الفأل نأنس به في هذه السنة القلقة.