لم تكن مسألة الانتقال إلى التحريض على التجمع الوطني الديمقراطي بعد حظر الحركة الإسلامية وحظر 20 مؤسسة أهلية من مؤسسات العمل الأهلي سوى مسألة وقت، ولن تكون مسألة التحريض على غيرهما ممن سيأتي الدور عليهم وفق برنامج نتننياهو إلا مسألة وقت أيضا.
منذ حظرت الحركة الإسلامية منتصف ليلة 17-11-2015 وحظرت معها 20 من مؤسسات العمل الأهلي كان واضحا أن الحظر ليس لمسمى الحركة الإسلامية بقدر ما هو حظر للعمل السياسي وللعمل الأهلي الشفاف الذي يسعى إلى بناء مجتمع بناء وفاعل وإيجابي ووطني ومستقل في الداخل الفلسطيني، وعليه فقد كان واضحا منذ البداية أن التجمع الوطني الديمقراطي ربما يكون القادم في الدور، وليس بمنأى عن هذا الدور أي من مركبات شعبنا الوطنية وأحزابه السياسية.
"لا نريد دولة داخل الدولة" قال نتنياهو في معرض تبريره للحظر الذي كان في 17-11-2015، وهو يقصد في ذلك مؤسسات العمل الأهلي التي كان يستفيد منها نصف مليون إنسان في الداخل الفلسطيني على مختلف الأصعدة والمجالات، ولكن مصطلح دولة داخل الدولة هو أبعد ما يكون عن واقع الحال الذي كان، لكنها كانت مؤسسات أهلية خدماتية تسعى لتوفير الكرامة والعيش المحترم بالقدر الممكن لأهل الداخل الفلسطيني، كانت تقدم المنح التعليمية لطلاب الجامعات، كانت تقدم المنح التدريسية الكاملة، كانت تقدم المعونات المالية والطرود الغذائية، كانت ترمم البيوت الآيلة للسقوط، أو تلك التي ضربتها المصائب كالحريق أو ما شابه، كانت تعين على نوائب الدهر، وكانت الأكثر شفافية حتى من وزارات حكومات إسرائيل المتعاقبة التي رأينا وما نزال نرى وزراءها ورؤساءها ورؤساء حكوماتها وقد أصبحت السجون منازلهم بعد إذ كان فساد الذمة المالية والأخلاقية هي ديدنهم.
بعد أن حظرها نتنياهو انتقل في خطوته القادمة إلى مطالبة أعضاء الكنيست العرب بتقديم الولاء الكامل، وإلا فانه سيعاقبهم على عدمه، ولذلك فانه بدأ بالإخوة أعضاء الكنيست من التجمع الوطني الديمقراطي وشغَّل ماكينة تحريضه المتميزة وأبعدهم عن عملهم البرلماني أربعة أشهر للنائبين باسل غطاس وحنين زعبي وشهرين للنائب جمال زحالقة.
في واقع الأمر فإن نتنياهو يسعى إلى تجريد النواب العرب من عروبتهم ومن فلسطينيتهم ومن إنسانيتهم، فالنواب العرب أن لم يكن جل اهتمامهم منصبا في قضايا أبناء شعبهم، فأين يمكن أن يكون، وبعيدا عن قناعتي التامة التي لم تتزعزع بشأن مشاركتنا في انتخابات الكنيست التي ملخصها أنها لم تحق لنا حقا، ولم تقدم لنا شيئا ولم تكن سوى استعمالا ديكوريا لديمقراطية زائفة، بعيدا عن ذلك فإن أعضاء الكنيست العرب ليسوا مسؤولين عن تخصيص الميزانيات ولا عن جلبها، فليسوا هم من يقودون الوزارات، وليسوا هم أصحاب القرار ومن يطالبهم بذلك فإنه يحملهم فوق وسعهم، وهذه المسألة هي من صلب اهتمام الدولة ووزارتها وهي مسألة يكفيهم إياها رؤساء السلطات المحلية الذين انتخبوا لهذه الغاية، ولذلك أن لم يكن اهتمامهم منصبا في قضايا أبناء شعبهم الوطنية كمؤازرتهم ومناصرتهم وفضح السياسات الإسرائيلية الاضطهادية والعدوانية والقمعية وفضح سياسة الإعدامات الميدانية التي باتت سمة هذه الحكومة ومؤسساتها الأمنية، وإن لم يكن من صلب عملهم الدعوة الصريحة وبالفم الملآن إلى نزع الشرعية عن الاستيطان السرطاني الذي يغزو الأراضي الفلسطينية، عبر كل وسيلة شرعية محلية أو دولية متاحة، فما فعلهم هناك إذا.
أقصى ما تتيح فعله منظومة الحكم الإسرائيلية للنواب العرب هو هذه المواقف السياسية والإعلامية المناصرة لأبناء شعبهم في كل أماكن تواجده فإن باتت هذه المنظومة تعاقبهم على ذلك وتطالبهم بإثبات إسرائيلي تهم وولائهم الكامل والتام الذي لا يقل عن أعضاء الكنيست من الليكود والبيت اليهودي، أي تطالبهم بعداء عروبتهم وفلسطينيتهم وقضاياهم الوطنية والقومية والدينية، فإذا كان واقع الحال أضحى يسير بهذا الاتجاه فما هي الجدوى من الوجود هناك أصلا.
لا أختلف مع أحد في أن نتنياهو هو الأبرع في إيجاد العدو "البعبع" الذي يخوف به شعبه حتى يتمكن من البقاء على كرسيه، فقد فعل ذلك طيلة عشرين عاما عندما جعل من المشروع النووي الإيراني رافعته الانتخابية، ولكن هذا المشروع انتهى ولذلك وجد له عدوا آخر من السهل جعله هدفا و"إجماعا وطنيا" إسرائيليا وهو نحن أهل الداخل الفلسطيني، كل ذلك صحيح لكن الأصح منه أن هذا القمع الذي باتت تمارسه منظومة الحكم الإسرائيلية هو ما تؤمن به حقيقة وهو ما باتت تهيئ له كل الأسباب والظروف القمعية.
فهذه المنظومة تسعى الآن إلى التضييق الفعلي والحقيقي لهامش العمل السياسي والأهلي لأهل الداخل الفلسطيني ومقايضة الحق المشروع لنا في حياة حرة كريمة (بكافة مكونات ومفردات هذه الحياة على مستوى الميزانيات أو العمل السياسي والأهلي) بخيانة الثوابت الوطنية والعربية والفلسطينية والعداء لها لصالح الولاء المطلق للمكونات الصهيونية للدولة وباتت ميزة الحديث حتى لدى من يقف في رأس هرم منظومة الحكم الإسرائيلية وهو رئيس الحكومة وصف العرب بالحيوانات المفترسة عندما تحدث عن إحاطة دولته بجدر وقرى محصنة حتى يحميها من "الحيوانات المفترسة" على حد تعبيره.
المرحلة القادمة مرحلة اضطهاد ومحاولة نزع شرعية وجودنا على أرضنا وفي وطننا وهي مرحلة تقتضي تحديث أدوات النضال المشروعة والإبداع في إيجاد مثيلاتها في مواجهة سياسات الظلم الإسرائيلية القادمة علينا ولا يظن أحد أنه بمنأى عنها حتى ولو وصفته منظومة الحكم الإسرائيلية بالعربي الجيد، فهذا العربي في أدبيات هذه المنظومة ليس موجودا إلا في القبر.