عندما يحقق أحد الأفلام السينمائية نجاحا جماهيريا باهرا، يعمد المنتجون إلى إصدار سلسلة من الأفلام لحصد المكاسب تستثمر في الثيمة المدهشة ذاتها، وفي حالة الثورة السورية المنكوبة كانت جنيف عنوانا لسلسلة من الأفلام الرديئة المتعلقة بالنكبة السورية، وقد هيمنت ثيمة
الإرهاب على مضمون رواية جنيف منذ النسخة الأولى التي افتتحت في حزيران/ يونيو 2012، وأعيد إنتاج جنيف2 في كانون الثاني/ يناير 2014، وأخيرا
جنيف3 الذي كان من المفترض أن تنطلق فعالياته في توقيت جنيف2 ذاته، لكنه تأخر إلى شباط/ فبراير 2016، ولا يخفى على أحد بأن الإعداد كان يستغرق مدة عامين؛ حرصا على جودة المنتج والإخراج.
أبطال فيلم جنيف من جانب النظام السوري لم تتبدل ثيمة الرواية لديهم، فقد أصروا على مسألة "حرب الإرهاب" أولا، وضرورة تعريف "الإرهابيين" ثانيا، وهم بطبيعة الحال كافة الفصائل المقاتلة ضد النظام، أما أصدقاء سورية المفترضون، فقد اختلفت روايتهم بشأن الإرهابيين، لكنها في النهاية اقتربت من رواية النظام. وبخصوص أطراف المعارضة، فقد تواضعت مطالبهم في جنيف3 إلى طلب ضمانات بتلبية مطالبها المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن رقم 2254 الصادر في كانون الأول/ ديسمبر 2015، والذي ينص على إرسال مساعدات إلى المناطق المحاصرة ووقف قصف المدنيين.
لكن الولايات المتحدة الموصوفة بصديقة سورية دعت المعارضة إلى المشاركة في "جنيف3" دون شروط مسبقة، حسب ما أفاد به المتحدث باسم وزارة الخارجية جون كيربي، ذلك أن الولايات المتحدة باتت منذ التدخل الروسي في أيلول/ سبتمبر 2015 متفهمة لرواية الإرهاب، بحيث أصبح وزير الخارجية الأميركي جون كيري لا يختلف عن نظيره الروسي سيرغي لافروف؛ إذ وجه إنذارا باستبعاد
المعارضة السورية، وفرض عليها تصورا يقوم على تشكيل حكومة مشتركة مع النظام والعمل على انتخابات يحق للرئيس بشار الأسد الترشح فيها ودون جدول زمني لرحيل الأسد.
لقد كان واضحا منذ بداية الثورة السورية أن الولايات المتحدة لا تضع ثقتها بالثوريين الإسلاميين السنة، وتكشفت خشيتها منذ فترة بعيدة عقب اتفاق الكيماوي مع النظام من خلال الروس، وتوضحت رؤيتها من خلال برامج تدريب القوى المعتدلة، بحيث باتت مقتنعة بعدم وجود معتدلين إسلاميين يمكن الوثوق بهم، حيث قلصت دعمها شيئا فشيئا، وباتت تقتصر على قوات سورية الديمقراطية الكردية، وأغلقت غرف الدعم المشتركة، حيث تكاملت الرؤية الأمريكية الروسية منذ بداية أيلول/ سبتمبر 2015 قبل أن يتدخل الروس في 30 أيلول/ سبتمبر، فقد عمدت أمريكا إلى تحجيم الدعم ففي الجبهة الجنوبية تخلت غرفة الموك عن الدعم تحت ذريعة تعامل الفصائل مع
تنظيم الدولة وجبهة النصرة وبيعها للسلاح.
لكن الحقيقة كانت في طلب الغرفة من الفصائل الكف عن قتال النظام ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، فالولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في إطار "غرفة العمليات المشتركة" كانت قلقة من التحولات الجارية في الجبهة الأخطر في الجنوب السوري المتاخمة للحدود السورية الأردنية والسورية الإسرائيلية، فعلى الرغم من دعم وإسناد مكونات الجيش الحر وممثلهم الأبرز فصائل "الجبهة الجنوبية".
إلا أن ما حدث في إدلب عبر تكوين جيش الفتح أضفى ظلالا من الشك على قدرة مكونات "الجبهة الجنوبية" رغم جودة تسليحها وضخامة عدد أفرادها، الذي يتجاوز (30) ألف مقاتل، حيث تولدت قناعة مفادها أن مصير فصائل الجبهة الجنوبية المعتدلة لن يختلف كثيرا عن مصير فصائل الجبهة الشمالية المعتدلة أمثال حركة حزم وجبهة ثوار سورية التي لم تصمد أمام جهاديي النصرة وحلفائها فضلا عن صمودها أمام قوات تنظيم الدولة الإسلامية.
الولايات المتحدة وعموم أصدقاء سورية المفترضين كانوا على قناعة بضورة التدخل الروسي للتخلص من التبعات الأخلاقية والارتهان السياسي لميكيافيلي، وبهذا فقد كانت النسخة الأخيرة من جنيف تعني نهاية سردية الثورة السورية عبر فرض استسلام مذل بحجة الاعتدال تحت وقع القنابل العمياء الروسية وحديث الحصار والتجويع، فتصعيد العمل العسكري الروسي وتقدم قوات النظام السوري المسند من قوات الحرس الثوري الإيراني والمليشيات الشيعية في منطقة حلب، ومحافظة درعا الجنوبية، وكسر الحصار عن بلدات مثل نبل والزهراء، كان معلوما لدى الولايات المتحدة ونتيجة حتمية للتفاهمات المسبقة.
في هذا السياق، برزت السعودية بتقديم مقترح للمشاركة في حرب برية في سورية لقتال تنظيم الدولة الإسلامية، وقد رحبت الولايات المتحدة بالمقترح "الإيجابي"، وقالت إن وزراء دفاع حلف الناتو سيجتمعون في بروكسل الأسبوع المقبل لبحث الاستعداد السعودي لإرسال قوات برية، ووضع الخطط حول كيفية التعاطي مع تغيير موازين القوى لصالح النظام السوري، والبدء في بتنفيذ غارات جوية جديدة؛ لإنهاء حالة الفوضى التي أحدثتها غاراته الجوية الأولى قبل خمسة أعوام.
لا شك بأن المقترح السعودي لاقى سخرية من قبل النظام السوري المنتشي على لسان وزير الخارجية المعلم، حيث أكد على أن السعودية عاجزة عن حماية نفسها؛ إذ يدرك النظام السوري الاستدارة الدولية جيدا، ويبدو حديث التدخل من بعض أصدقاء سورية المفترضين غريبا فعلا، فقد أظهروا عجزا مزمنا عن دعم الثورة السورية على الصعيدين السياسي والعسكري، فتركيا لا تستطيع التدخل؛ لكونها مكبلة بحلفائها في حلف الناتو، كما أن الجميع بات مقتنعا بثيمة إرهابوية الثورة السورية. وفي نهاية المطاف، فإن كافة الأطراف تستأسد على تنظيم الدولة الإسلامية، أما الأسد فقد بات شريكا للجميع.