في الواحد والعشرين من كانون الثاني/ يناير من عام 2009، وضعت حرب الفرقان على غزة أوزراها، وسمحت حينها القوات الإسرائيلية للصحافة الغربية بالدخول إلى قطاع غزة المدمر بعد أن كانت قد منعتهم من تغطية المجازر والدمار الذي أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية.
رافقت كثيرا منهم لتغطية قصص إنسانية وكانت ما أكثرها، فعائلات كاملة قد استُشهد كل أفرادها في عمليات إعدام جماعي قامت بها القوات الإسرائيلية بحق الآمنين العزل، فعائلة السموني مثلا قضى من أبنائها 29 شهيدا، وغيرها الكثير الكثير، إذ وصل عدد الشهداء إلى ما يربو عن 1317 شهيدا، بينما عدد الجرحى تجاوز 5340.
لم يكن ذلك العدد المخيف من الشهداء والجرحى – وقتها لم يكن بعد مألوفا ذلك الكم من الدماء – هو ما يغري الصحافة الغربية لتغطيته إعلاميا. كانت قصة استهداف "حديقة حيوان بيسان" في غزة وقتل الحمار الوحشي "المزيف" - كان حمارا لُوّن باللون الأبيض والأسود ليبدو حمارا وحشيا يقصده طلاب مدارس القطاع الأبرياء المحاصرين - كان ذلك "الحمار" هو أكثر المواضيع التي لاقت رواجا بين شتى وسائل الإعلام، فلم تبق وسيلة إعلامية مقروءة أو مرئية أو مسموعة من الشرق أو الغرب إلا غطت تلك القصة، هذا ما دفع جيش الاحتلال الإسرائيلي وقتها لأن يتصل بصاحب الحديقة ويقطع الوعود بتعويضه بـ"حمار وحشي" حقيقي، بل وبحيوانات أخرى على أن ينفي أنها نفقت جراء القصف الإسرائيلي.
كانت مراسلة إحدى المحطات الدولية حريصة أشد الحرص على أن نزور مخيم جباليا في شمال القطاع، والذي كانت الحركة فيه أشبه بالمستحيلة جراء القصف الإسرائيلي الذي لم يترك بشرا ولا حجرا ولا شجرا إلا واشتكى إلى الله من همجية وطغيان آلة القتل الصهيونية. أصرّت أن نذهب إلى بيت بعينه، أتينا المكان وأخذت أسأل عن ذلك البيت المنشود، وكانت المفاجأة والصدمة عندما وصلنا، بعد عناء طويل، إلى بيت تلك العائلة لأعرف حينها من تلك المراسلة الصحفية أنها جاءت لتسأل عن "قط" كان قد أصيب في قصف إسرائيلي سابق، وكانت هي من غطت قصة ذلك "القط" المسكين وأرادت أن تعود لتطمئن عليه بعد انقطاع دام بضع سنوات، وكم تأثرت وحزنت عندما علمت أنه قضى بعد أيام من زيارتها له في المرة السابقة.
تعج اليوم شاشات التلفزة العربية بمشاهد تفطر القلوب، وتعصر الأفئدة كمدا وقهرا عندما ترى صور أهل تلك المدينة التي كانت يوما مصيفا يقصده أهل الشام للاستجمام والاسترخاء، ترى اليوم صور أطفالها هياكل عظمية، وشيوخها أجسادا ميتة تعتصر أمعاؤهم جوعا وتتضور أحشاؤهم ألما.
عقب اندلاع الثورة السورية، انتفضت "
مضايا"، تلك البلدة الصغيرة التي تتبع الزبداني، انتفضت ضد حكم الطاغية "بشار" فكانت أول بلدة تنادي صراحة بإسقاط النظام الأسدي القمعي، ولذلك كان لابد وأن تعاقب عقابا مختلفا. دمرتها طائرات الأسد الحاقدة وبراميل موته العمياء، ولا يزال يعاقبها "مرتزقة الممانعة" بحصار التجويع والتركيع، وذاك نهج الطغاة على مدار التاريخ والأزمان منذ شعب أبي طالب إلى
حصار غزة.
تهاجم صور أطفال مضايا الجائعين رجولتنا، تستصرخ إنسانيتنا، تشعرنا بموت ضمائرنا، تربك عجزنا وتقصيرنا، تذكرنا بمن امتطوا ظهورنا، واسترقوا نخوتنا حتى أضحينا عجزة مشلولين لا نقوى حتى على الدعاء للمظلومين والمقهورين.
ليسوا سفارة أحرقت في طهران لتقطع العلاقات مع عرّابي الخراب والدمار، لن تقرع لهم طبول الحرب ولن ترسل لهم تلك القوافل التي أغاثت ضحايا "إعصار كاترينا" الأمريكي، ليسوا أيضا ضريحا لسليمان شاه التركي ليدخل الجيش التركي بعملية عسكرية في الأراضي السورية لنقله إلى منطقة آمنة في الأراضي التركية. أليسوا بشرا؟ ألا تبا للعقل والحكمة إن حضن الأب ابنه بين ذراعيه ميتا جوعا، ونظرت الأم لرضيعها عاجزة مقهورة!!
كفرنا بكل الحسابات والمقاربات حين تعجز الإنسانية أن تقف لتقول لدجالي الممانعة كفى. كفرنا بإنسانية تدفع شبابا أن يطلقوا حملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي لإنقاذ القطط والكلاب من بين أيدي الجائعين المجوعين في مضايا الشام.
كفرنا بمن تحركهم مشاعر الحيوانات ولا يحركهم أنين الرضع والشيوخ – خاصة إن كانوا عربا أو سنة - نعم كفرنا بهذا النفاق المج المقيت الذي يدفع برئيس أكبر دولة في العالم لأن ينهار باكيا تسيل دموعه الحارة على وجنتيه؛ وهو يتحدث متأثرا عن الأطفال الأمريكيين الذين يقضون سنويا بحوادث إطلاق النار وأعمال العنف، ولا تتحرك مشاعره لمشاهد الموت القادم من مضايا الشام.
لا أقول لم ولن يرى ما يحدث في مضايا، بل أقول لقد سمع ورأى كل ما حدث ويحدث وما تحرك له ساكنا، فإنسانيته المرقعة البالية تأبى أن تتحرك كما تحرك أسطوله الجوي للأزيديين مثلا. ألا يقوى الرئيس الأقوى أن يمطر أهل مضايا طرودا غذائية كما فعل مع غيرهم؟ نعم لا يقدر ولا يقوى. لماذا؟! لأننا – العرب - أضحينا مطايا، قبلنا أن نكون أرقاما على مسلخ الحقد الصفوي الطائفي، ومضى كل منا يغني على ليلاه وما عاد يعنيه ما يحدث لأبناء أمته.
فضحت "مضايا" عوراتنا الظاهرة، وسيتحسس الجميع منا رقبته إن عجزت من كانت يوما تسمى أمة عربية أو إسلامية أن تمنع رياح الموت والجوع والقهر أن تعصف بأطفال ونساء عزل لا يملكون من أمرهم إلا حفر قبور من قضى منهم وعد أنفاس من بقي ينتظر المنون.