لم تكن عملية استعادة
الرمادي من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية مسألة عراقية تتعلق بالسيادة والكرامة العسكرية المادية المهدورة فحسب، فتلك مهمة لم تنجز ميدانيا بعد، لكنها كانت تتموضع في المجالات المعنوية الرمزية لاستعادة هيبة الكرامة الدولية ونرجسية القوة العسكرية للتحالف الدولي بزعامة الولايات المتحدة، التي تعرضت على مدى أكثر من عام ونصف للإهانة والاستخفاف والسخرية؛ نظرا لفشلها في تحقيق نصر يذكر، وتضاعف الإحساس بجروح "الهوية" النرجسي بعد استعراض تنظيم الدولة الإسلامية قوته في باريس بصورة مشهدية مذلة للذات الغربية المتضخمة، الأمر الذي دفع باتجاه الإسراع بالتخلص من "الرمادي" وإعلان نصر لم يحسم قبل نهاية عام 2015.
لا تتمتع الرمادي بأهمية استراتيجية مطلقا، وهي تقع في المجال التكتيكي؛ إذ تكمن أهمية عملية إعادة السيطرة على الرمادي باعتبارها نموذجا إرشاديا مستقبليا لـ"تحرير" مناطق أكثر أهمية على الصعيد الاستراتيجي كالموصل، فقد عملت الولايات المتحدة على تقديم معركة الرمادي كميدان اختبار لحرب ناجحة ضد تنظيم الدولة الإسلامية تتوافر على عناصر يمكن البناء على مخرجاتها باستبعاد نقاط الفشل الذريع الذي كان عنوانا للمعارك السابقة كمعركة تكريت، التي برهنت على رسوخ المنظور الطائفي للدولة العراقية ما بعد الاحتلال الأمريكي، وهيمنت المليشيات الشيعية على مفاصل الإدارة والحكم، بدءا من فتوى المرجعية الشيعية بواجب الجهاد الكفائي وليس انتهاء بتشكيل مليشيات الحشد الشعبي الشيعي الطائفي.
النموذج الإرشادي الأمريكي للرمادي يقوم على استبعاد عوامل الفشل الاستراتيجي، من خلال تغييب العامل الطائفي بإبعاد مليشيات الحشد الشعبي عن المعركة، والارتكاز على القوات العراقية الرسمية باعتبارها مؤسسة عسكرية وطنية غير طائفية، على الرغم من كون أكثر من 95% من أفرادها من المكون الشيعي، بالإضافة إلى زخرفة القوات المشاركة بقوات من الحشد العشائري المكون من بعض عشائر السنة التي قاتلت إلى جانب القوات الأمريكية إبان حقبة الجنرال بترايوس 2007، ولا تتعدى مشاركتها مجال الإكسسوارات والزينة.
لقد وقعت الولايات المتحدة في معضلة زمنية لتحقيق نجاح نموذج الرمادي، فقد برهنت المعركة مرة أخرى على ضعف قدرات القوات العراقية وافتقارها لإمكانات تحقيق نصر على مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية، الأمر الذي دفعها إلى اتباع نهج التظهير المكاني من خلال مئات الطلعات الجوية إلى جانب القذائف المدفعية والصاروخية الأرضية، حيث فشلت على مدى أسابيع محاولات اقتحام الرمادي تحت ذريعة الخشية على حياة المدنيين تارة، والخوف من عبوات ومفخخات التنظيم، حيث افترضت القوات العراقية ووحدات مكافحة الإرهاب أن تجد أمامها طريقا ممهدا بالأزهار والورود كما افترضت الولايات الأمريكية غداة احتلالها للعراق.
برهنت معركة الرمادي عن صعوبة تحقيق نصر على تنظيم الدولة الإسلامية دون استخدام خيارات الأرض المحروقة ونهج التطهير المكاني، كما فعلت من قبل في تكريت وكوباني، حيث يصبح المكان مطهرا وخاليا ولا يصلح لإقامة البشر، في الوقت الذي كان يفترض أن تقدم الرمادي نموذجا يصلح للتطبيق في مدن مأهولة بالسكان كالموصل، لكن يبدو أن ضغوطات السياسة والزمن دفعت باتجاه التخلي عن النموذج المنشود فعليا، الأمر الذي حمل الجميع على تحقيقه مشهديا وإعلاميا، حيث رفعت قوات الأمن العراقية العلم العراقي على ركام مقار الحكومة المحلية المدمرة في مدينة الرمادي عاصمة محافظة الأنبار، في 28 كانون أول/ ديسمبر 2015.
تشير الأرقام والإحصاءات التي صرحت بها وزارة الدفاع الأمريكية إلى فشل القوات العراقية عمليا باقتحام الرمادي، والتي لم تتمكن من الدخول إلا عقب تدميرها وتحويلها إلى ركام، فالمعركة الأسطورية الخرافية للقوات العراقية لم تسفر عن أسر أي عنصر من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، وعجزت عن عرض صورة مشهدية لجثة أحد مقاتلي التنظيم، الأمر الذي يؤكد أن الضربات الجوية الأمريكية شكلت 90% من هذا الانتصار المتخيل، حيث نفذ التحالف الجوي الذي تقوده الولايات المتحدة 630 ضربة جوية على مدينة الرمادي منذ يوليو/ تموز الماضي، 150 من هذه الضربات كان في الأسبوع الأخير فقط.
على الرغم من نهج التطهير المكاني للقوات الأمريكية في الرمادي، فقد أصرت الولايات المتحدة على منح نصر موهوم للقوات العراقية، حيث تفاعل رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي مع الحالة المشهدية، وصرح بأن عام 2016 سوف يشهد الانتصار النهائي على تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق، ففي كلمة بثها التلفزيون العراقي بعد إعلان الجيش العراقي السيطرة على مدينة الرمادي، قال العبادي "إذا كان عام 2015 عام التحرير فسيكون عام 2016 عام الانتصار النهائي وعام إنهاء وجود
داعش على أرض العراق وأرض الرافدين"، وأضاف "نحن قادمون لتحرير الموصل لتكون الضربة القاصمة والنهائية لداعش".
لم تقتصر حالة النشوة المفتعلة على العبادي وأركان حكومته وقواته، فتلك مشهدية مبتذلة، وهي فصل من مشهد دولي يبحث عن نصر منشود على تنظيم الدولة الإسلامية قبل حلول عام 2016، حيث تواترت الإشادات بالقوات العراقية المظفرة والنصر المؤزر باستعادة الجيش العراقي لمدينة الرمادي من تنظيم الدولة الإسلامية، والتي لم تكن قد تحررت بعد، فقد أشاد وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر بالحكومة العراقية على التقدم الذي حققته في استعادة السيطرة على مدينة الرمادي، وقال كارتر إن "طرد عناصر الدولة الإسلامية على يد قوات الأمن العراقية، خطوة كبيرة للأمام في الحملة الرامية لهزيمة هذا التنظيم البربري"، كما قدم وزير خارجية بريطانيا فيليب هاموند التهنئة للحكومة العراقية، وقال في بيان "هذه واحدة في سلسلة من خسائر داعش الكبيرة. هؤلاء الإرهابيون المتوحشون خسروا 30 في المئة من الأراضي التي كانوا يسيطرون عليها في العراق"، واعتبر الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند استعادة القوات العراقية لمدينة الرمادي "الانتصار الأهم" حتى اليوم في التصدي لتنظيم الدولة الإسلامية، وقال وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير إن ما حققته القوات العراقية "يظهر مجددا إمكان التغلب على تنظيم الدولة الإسلامية".
تدرك الولايات المتحدة وحلفائها جيدا بأن مسألة الإخلاء هي المهمة الأسهل في المعارك، وأن موضوعة الحفظ وعمليات البناء هي الأصعب، فتنظيم الدولة الإسلامية يقوم على اعتماد نمط من الحروب الهجينة، حيث سرعان ما يتكيّف مع التحولات الميدانية وينتقل من نهج اتباع الحروب الكلاسيكية إلى نهج حرب العصابات، وهو في كل الأحوال يعتمد على قوات خفيفة سريعة الحركة ترهق القوات المهاجمة، ومن المؤكد أن تنظيم الدولة الإسلامية سوف يستمر بتنفيذ هجمات مركبة انتحارية ومفخخة وعبوات ومقذوفات تحول دون تحقيق الاستقرار، فضلا عن عمليات البناء والإعمار، بحيث تصبح الحياة شاقة وغير ممكنة، وبذلك يصبح السكان عبئا على الإدارات المحلية وعاملا في عدم الاستقرار، وإذا كانت عملية إعادة السيطرة على الرمادي استغرقت أشهرا فقد يتمكن التنظيم من السيطرة الكاملة على المدينة خلال ساعات بنفس الطريقة التي حدثت في مايو/ أيار 2015.
بحسب تصريحات أحد مستشاري وزارة الدفاع الأمريكية فإن الجزء الأصعب في استعادة الرمادي لم يأت بعد وأن ما تم حتى الآن هو الأسهل، حيث تعود صعوبة الأمر في تلبية احتياجات سكان المدينة الاقتصادية والسياسية والإنسانية وإلا فسيكون أمر الحفاظ على المدينة مستحيلا، كما أن الحفاظ على مدينتي الرمادي وتكريت والمناطق حول نهر دجلة هي الطريق للوصول إلى الموصل وأن المعارك في الموصل لو لم تكن إنسانية بالمقام الأول لتحولت لعملية تطهير عرقي للسكان السنة.
الإعلان عن النصر النهائي للقوات العراقية في الرمادي نهاية عام 2015، تبدد مع بداية عام 2016، حيث شن تنظيم الدولة الإسلامية صباح اليوم الأول من السنة الجديدة 1 كانون ثان/ يناير هجوما معاكسا واسعا، وتمكن من اقتحام 30 نقطة بالرمادي، حيث أعان تنظيم الدولة إن عناصره تمكّنوا خلال يوم الجمعة فقط، من السيطرة على أكثر من ثلاثين نقطة عسكرية في الرمادي، ومحيطها، أسفرت عن سيطرة التنظيم على أكثر من عشر ثكنات للقوات العراقية قرب منطقة البوعيثة شمالي الرمادي، وذلك بعد تفجير اثنين من عناصره نفسيهما على المداخل المؤدية لتلك الثكنات، في كتيبة المدفعية.
كما أعلن التنظيم عن فرض سيطرته على جسر البوريشة شمالي غرب الرمادي، بعد اشتباكات عنيفة مع القوات العراقية، مشيرا إلى أن عناصره تمكّنوا من تدمير دبابة من نوع "أبرامز"، إثر استهدافها بصاروخ موجه من فوق الجسر، وفي شمال الرمادي أيضا، قال التنظيم إنه سيطر على إحدى عشرة ثكنة للجيش بمنطقة الطراح، وذلك بعد تمكن عناصره من اقتحامها، وقتل جل من كان فيها، بالإضافة إلى إحراق أكثر من 100 آلية تابعة للجيش في المنطقة ذاتها.
وفي شرق الرمادي، قال تنظيم الدولة إن عناصره سيطروا على خمس ثكنات للجيش في منطقة المضيق، حيث تم قتل عدد من جنود الجيش العراقي، واغتنام أسلحتهم، وأما في الجنوب، فقد أعلن التنظيم عن إبادته رتلا كاملا للجيش العراقي قرب منطقة الحميرة، إثر كمين محكم استُخدمت فيه مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة، والمتوسطة، وفقا للتنظيم، وأوضح التنظيم أن عناصره تمكّنوا خلال الكمين من تدمير جميع آليات الرتل، بالإضافة إلى تدمير دبابة "أبرامز"، وثلاث عجلات من نوع "همر"، عدا عن قتله العشرات من الجنود، والضباط، وفقا للرواية الرسمية لتنظيم الدولة، وفي جنوب الرمادي قال التنظيم إنه سيطر على ست ثكنات للجيش العراقي قرب نفس البو عبد الرزاق، حيث تم قتل عدد من الجنود، فيما تمكّن البقية من الفرار، وفقا لرواية التنظيم، وفي وقت لاحق من مساء الجمعة، بثّت وكالة "أعماق" التابعة لتنظيم الدولة مقطعا مصورا، يظهر تقدم مقاتلي التنظيم في محيط المجمع الحكومي وسط الرمادي.
خلاصة القول أن النموذج الإرشادي المفترض لعملية استعادة السيطرة على الأراضي التي تقع تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية عبر "نموذج الرمادي"، لم يكن ناجحا، فقد برهنت معركة الرمادي عن صعوبة تحقيق نصر على تنظيم الدولة الإسلامية دون استخدام خيارات الأرض المحروقة ونهج التطهير المكاني، كما فعلت من قبل في تكريت وكوباني، حيث يصبح المكان مطهرا وخاليا ولا يصلح لإقامة البشر، في الوقت الذي كان يفترض أن تقدم الرمادي نموذجا يصلح للتطبيق في مدن مأهولة بالسكان كالموصل، كما أن الاعتماد على القوات المحلية ليس مشجعا، والتخلص من الطائفية لم يكن ناجعا حيث تتخفى المليشيات الطائفية تحت لباس الوطنية، وأما الحشود العشائرية السنية فهي إكسسوارات تجميلية لا تتوافر على مشروعات وطنية عراقية.