"إن الحديث عن وضع المثقف العربي في هذه المرحلة مخيف ومؤلم، ولكنه ضروري جدا، وقد قررت أن أبذل جهد المقل في تناول الحالة الثقافية العربية في سلسلة مقالات ألقى بها الله متحللا من عبء ثقيل، ومتأملا أن ينهض ولو قليل من المثقفين العرب لحمل الأمانة، متحررا من تقديم المهم على الأهم، لا سيما في هذه المرحلة المفصلية من التاريخ العربي والإسلامي والإنساني".
قد تهوّن بعض القراءات من خطر خذلان وانحدار وتيه بوصلة المثقفين، معللة ذلك بثورة الاتصالات، وانتهاء احتكار كهنة
الثقافة والفكر لساحات التنظير؛ لأن بإمكان أي فرد أن يبث رؤيته وأفكاره، ما صلح منها وما فسد، عبر فضاء الإنترنت، فقد تراجع تأثير الصحف المقروءة التي كانت وما زالت حكرا على ثلة من الكتبة، بغض النظر عن الغث أو السمين مما كتبوا ويكتبون، وحتى الفضائيات التي لا تخلو من احتكار كهنوتي بطريقة أو بأخرى، لم تعد تستأثر بالصوت والصورة في ظل وجود قنوات اليوتيوب..
وهذه قراءة مستعجلة، فالحال أشبه بموزع بضائع من مخزن ضخم على محلات كبيرة وصغيرة، نظرا للمشهد المشوّه الذي لا نرى فيه تمايزا يشفي القلب بين ترّهات وشطحات وتيه المثقف العربي التقليدي، وبين مخرجات الإعلام الجديد من الكوارث الثقافية التي تطفو على السطح وتزيد من التضليل حدّ الإسكار!
فحين تجد من يصدق أن برنار هنري ليفي، هو صانع ومفجر
الثورات العربية؛ فالمثقف شريك إن لم يكن مسؤولا عن هذا التسطيح أو الهراء قبل أجهزة المخابرات ودهاقنة السياسة والمال الماكرين.
وحين تجد تلميعا سخيفا ودفاعا عن نظام استبدادي بوليسي، وبائن ارتباطه وتنسيقه مع الأعداء من صهاينة وأمريكان وغيرهم، ثم يأتي من يقول بأن هذا النظام (شوكة) في حلق الأعداء؛ فالمثقف شريك فاعل في هذا الجرم.
وحين يكرر المثقف بيع البضاعة الفاسدة ويختزل كل المشهد بوجود مؤامرة على نظام معين، وبناء عليه فإن كل من لا يقف مع هذا النظام هو مجرد خائن عميل أو مشبوه، بينما من يمالئ هذا النظام ويؤيده فقط هو الوطني والشريف وصاحب الرسالة الإنسانية؛ فإن المثقف هنا بحاجة إلى تثقيف بالمعنى المادي لا المعنوي أو الاصطلاحي.
وحينما يُـرَحَّب بالاستعمار والتدخل الخارجي من أي دولة كبرى بحجة أنها أفضل من غيرها من الدول الاستعمارية التوسعية الأخرى، في إيحاء مقصود أو غير مقصود -لا يهم- بأن شعوبنا يجب أن تكون مركوبة دائما؛ فالمثقف تحوّل إلى جندي مرتزق في صفوف الغزاة.
وحينما ينظّر المثقف الذي لطالما أشبع الناس كلاما منمقا عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان ومبدأ تداول السلطة وضرورة الفصل بين السلطات، لصالح انقلاب عسكري تحت أي حجة كانت، وهو مسكون بالحقد الأيديولوجي أو الطمع أو حتى الخوف من الابتزاز فقد تحوّل إلى (بسطار) عسكري ولا أجد له في قاموسي وصفا أفضل من ذلك.
وحين يتجاهل المثقف القتل والقمع وانتهاك الأعراض، بل يعمد إلى التكذيب والنفي لوقائع مرئية، أو ينتهج التبرير المقزز؛ فلا فرق بينه وبين الجلاوزة إلا بالاسم أو الوظيفة المباشرة.
وحينما يتغزّل المثقف بحزب الشعب الجمهوري في تركيا، وهو يعلم تاريخ حقد الحزب المذكور على العرق العربي والحرف العربي والثقافة العربية، فقط نكاية بخصم سياسي أو أيديولوجي وردة فعل صبيانية موتورة على موقف أردوغان من سورية أو مصر، فإن هذا المثقف في حالة سكر فكري شديدة.
وحين يروّج مثقف عربي لرواية توراتية عن ماهية وأهمية المسجد الأقصى عند المسلمين، ولا يتراجع عن تفوهاته ويصرّ عليها، ولا يجد من يضرب على يده كي يرعوي عن غيه المنتحل لصفة الثقافة والعلم بالتاريخ، فإن ثمة خلل في جهاز المناعة انتقل من النخبة إلى مفاصل الأمة، مع بالغ الأسف.
وحين تجد شبانا تخرجوا من الجامعات لا يعلمون شيئا عن الكيان العبري واحتلال فلسطين، وانتهاك المقدسات، ولا يرون في المشروع الصهيوني خطرا على كينونـتهم، وفي ذات الوقت ترى كثيرا من هذه الفئة أشبه بموسوعة شاملة فيما يخص أدق تفصيلات حياة المطربين والمطربات والراقصات ولاعبي كرة القدم وكأنهم من أفراد أسرته الصغيرة؛ فالحال يستحق البكاء والعويل.
وحينما تجد أن الإعلام الجديد قد فضح حقيقة مرّة مفادها أنه حتى المتعلمين في الجامعات يجهلون أساس الإملاء، ولا يميزون بين المرفوع والمنصوب في لغة العرب؛ فإن السوس قد نخر العظم ناهيك عن تشوّهات ظاهر الجسد!
وما سبق غيض من فيض ما تطفح به الساحة الثقافية العربية بكافة مستوياتها وطبقاتها من تيه وضياع وضلال وتضليل، وطمس للحقيقة، وبدل أن يكون المثقفون حفظة لكينونة الأمة في حال الغزو العسكري، كما حصل إبان غزو التتار فقد صاروا بمثابة الركن القوي لتدمير الأمة من داخلها، كي تكون جاهزة للهضم بسلاسة من الغزاة.