قضايا وآراء

إسرائيل كيان عسكري أمني بقشرة سياسية

سري سمّور
الأناضول
الأناضول
كثيرا ما نردد مقولة "كل دولة لها جيش، عدا إسرائيل، حيث إنها جيش له دولة!".

ومع ذلك فإن قطاعات واسعة غربية وعربية وفلسطينية من مستويات مختلفة (سياسية وإعلامية وأكاديمية) تتغافل أو تتناسى هذه الحقيقة، وتدخل نفسها في دوامة انتخابات الكنيست الإسرائيلي وما تفرزه من منظومات حكومية.

والأدهى والأمرّ الاتجاه نحو تفسير الأحداث بمعطى نتائج الانتخابات، أو بنظرية الصراعات السياسية الحزبية داخل الكيان العبري، خاصة عندما يكون هناك عدوان أو عمليات حربية تستهدف الفلسطينيين وغيرهم، وتصوّر المسؤول السياسي الإسرائيلي كأنه يريد مناكفة خصومه في الحلبة السياسية، فيضرب هنا ويغتال ويقصف هناك، طمعا بتعزيز موقعه قبيل الانتخابات أو بعدها، أو حفاظا على ائتلاف حكومي ضعيف، وهكذا.

في هذا المرقوم سأحاول فتح ثغرة ولو صغيرة لتجاوز هذه النظريات التي يحظى أصحابها بحضور دائم في الإعلام، وبعضهم ممن يمتهنون العمل السياسي؛ وأنا أقول: علينا جميعا التفكير بعيدا عن هذه النظرية، ليس من باب تبادل وجهات النظر المتباينة بل من باب وضع النقط على الحروف، والتخلص من نمط تفكير جعل قطاعات واسعة من العرب والفلسطينيين ولفترات زمنية طويلة، أسرى انتظار التحوّلات الإسرائيلية السياسية، والتعلق بأوهام فوز اليسار الإسرائيلي في انتخابات الكنيست، أو على الأقل قدرته على فرملة اليمين، وصولا إلى تمني فوز اليمين على اليمين المتطرف العنصري.

علينا جميعا التفكير بعيدا عن هذه النظرية، ليس من باب تبادل وجهات النظر المتباينة بل من باب وضع النقط على الحروف، والتخلص من نمط تفكير جعل قطاعات واسعة من العرب والفلسطينيين ولفترات زمنية طويلة، أسرى انتظار التحوّلات الإسرائيلية السياسية، والتعلق بأوهام فوز اليسار الإسرائيلي في انتخابات الكنيست، أو على الأقل قدرته على فرملة اليمين، وصولا إلى تمني فوز اليمين على اليمين المتطرف
التأسيس والاستمرارية

إذا كانت إسرائيل قد أُعلن عن قيامها منتصف أيار/ مايو 1948 فإنها قبل ذلك كانت قد أقامت بمساعدة بريطانيا ثم أمريكا مؤسسات مختلفة تحاكي مؤسسات دولة مستقلة حديثة، ولأن الصهيونية حركة تقوم على الاقتلاع والإحلال، فإن أهم ما حرص عليه دهاقنتها ومن يدعمهم، هو وجود قوة عسكرية وأمنية قادرة على احتلال الأرض وتهجير سكانها، وتثبيت الواقع الجديد على الأرض.

ولذا فإن تأسيس ما يسمى "تساهال" (جيش الدفاع الإسرائيلي) كان له توقيت رسمي، بعد أقل من أسبوعين من إقامة الدولة، وتوقيت فعلي مع سيطرة سلطات الانتداب البريطاني وفتح أبواب الهجرة أمام اليهود.

فالجيش حقيقة هو اتحاد وتجميع العصابات العلنية (أبرزها الهاجاناة والسرية (مثل إرغون) في كيان منظم على الطراز الحديث، يكون بوتقة ينصهر فيها كل من يمكنه حمل السلاح من الذكور والإناث من اليهود، ولاحقا تم التوسع في التجنيد بفرض خدمة إلزامية على ذكور الدروز والشركس، وفتح الباب لمن أراد الدخول فيه من الطوائف الأخرى. وكما نعلم بفعل الدعم الخارجي صار هذا الجيش قوة كبيرة عددا وعتادا وسلاحا، مستندا إلى حرص أمريكي وغربي عموما على تفوقه وقدرته على تحقيق نصر سريع على جيوش المنطقة العربية.

وبالتوازي مع ذلك أسست الحركة الصهيونية أذرع تجسس لجمع المعلومات عن السكان العرب والمؤسسات البريطانية الانتدابية، أو حتى اليهود المشكوك في أمرهم، وتنفيذ عمليات اغتيال، وتجنيد عملاء وجواسيس، وتمكنوا من اختراق أوساط عربية عدة عبر التنكر بأسماء عربية لمن يتقنون العربية من اليهود، والدخول إلى صفوف العائلات المختلفة تحت ستار يخدع العرب ويستغل شهامتهم وحسن ضيافتهم، لدرجة الزواج والإنجاب!

وكل تلك الأذرع ستصبح لاحقا مؤسسات استخبارية فاعلة ومؤثرة وصاحبة قرار حاسم تتقاسم الساحات والأدوار (الموساد للمهمات الخارجية والاغتيالات، والشاباك للعمل في الداخل في التجسس وتجنيد العملاء والاغتيالات والتأثير في الرأي العام، وشعبة الاستخبارات (أمان) لأغراض التجسس العسكري والحربي ومنع تطور القدرات العسكرية عند المحيط، وإجراء البحوث المهمة للكيان).
المجتمع الإسرائيلي مصبوغ بالعسكرة والأمن وهي في سلم أولوياته، وتحظى مؤسسة الجيش عنده بتقدير وثقة لا تحظى بها أية مؤسسة أخرى مهما كان أداؤها متقدما ومفيدا، لأن الوعي الجمعي الإسرائيلي يستبطن نظرية بل قانونا وجوديا: "لولا هذا الجيش وهذه المؤسسة الأمنية لما كانت هناك إسرائيل، أيضا لما استمرت ولقام العرب، بل تمكن سكان فلسطين المحتلة من طردنا إلى حيث جئنا!"

الخلاصة أن الجيش وأذرع المخابرات والأمن ليست فقط سابقة لتأسيس وبناء مؤسسات الدولة العبرية، بل كان لها الدور الحاسم المهم في إقامة الكيان عبر قتل السكان العرب وتهجيرهم من قراهم ومواجهة أية مقاومة، وصولا إلى تثبيت الوضع القائم وتطويره.

لذا فإن المجتمع الإسرائيلي مصبوغ بالعسكرة والأمن وهي في سلم أولوياته، وتحظى مؤسسة الجيش عنده بتقدير وثقة لا تحظى بها أية مؤسسة أخرى مهما كان أداؤها متقدما ومفيدا، لأن الوعي الجمعي الإسرائيلي يستبطن نظرية بل قانونا وجوديا: "لولا هذا الجيش وهذه المؤسسة الأمنية لما كانت هناك إسرائيل، أيضا لما استمرت ولقام العرب، بل تمكن سكان فلسطين المحتلة من طردنا إلى حيث جئنا!".

استبدال ربطة العنق بالبزة العسكرية

عبر فترات طويلة كان الذين يصلون إلى موقع القيادة والسلطة في إسرائيل أصحاب تاريخ عسكري أو أمني ويعتبرون "أبطالا" في نظر المجتمع الإسرائيلي، لذا كان القائد العسكري المجرّب في الحروب والمهمات، يجد طريقه بسلاسة إلى العمل السياسي للالتحاق بعد بضعة أشهر بحزب سياسي من الأحزاب الموجودة، وخوض الانتخابات وتولي منصب سياسي من رئيس حكومة أو وزير أو عضو كنيست، ويظهر ببدلة وربطة عنق بدل الزيّ العسكري الذي ارتداه منذ أن كان فتى لم يبلغ السادسة عشرة من العمر.

وبناء على ذلك كان هناك انسجام تام بين المؤسسة العسكرية والأمنية، ومن يجلس في ديوان رئيس الوزراء وزملائه، فهم أصلا أبناء المؤسسة الأوفياء ويعرفونها وتعرفهم والثقة بين الطرفين متبادلة، وفي حال وجود خلافات فهي إجرائية بروتوكولية، أو شخصية تنافسية وقلّما كانت تطول أو تخرج إلى السطح. ولكن لا بد من التأكيد أن أصحاب الكلمة العليا خاصة فيما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين أو المقاومة اللبنانية أو إيران (الملف النووي) هم الجنرالات في الجيش أو المخابرات بلا أدنى شك.

محاولة اغتيال مشعل وتغوّل وهيمنة العسكر والأمن

انسجام تام بين المؤسسة العسكرية والأمنية، ومن يجلس في ديوان رئيس الوزراء وزملائه، فهم أصلا أبناء المؤسسة الأوفياء ويعرفونها وتعرفهم والثقة بين الطرفين متبادلة، وفي حال وجود خلافات فهي إجرائية بروتوكولية، أو شخصية تنافسية وقلّما كانت تطول أو تخرج إلى السطح. ولكن لا بد من التأكيد أن أصحاب الكلمة العليا خاصة فيما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين أو المقاومة اللبنانية أو إيران (الملف النووي) هم الجنرالات
بنيامين نتنياهو كان أول رئيس وزراء ينتخب لهذا المنصب بالاقتراع المباشر في 1996 وكان في العقد الخامس من عمره، ومجال عمله كان سياسيا ودبلوماسيا وأكاديميا وقضى فترات طويلة في الخارج، وكان قد أنهى الخدمة العسكرية قبل عشرين سنة، وبالتالي لا يعرف كثيرا عن الدولة العميقة وكواليس إدارتها وأسرارها مثل أسلافه وأغلبهم من أصحاب البصمات الواضحة في تأسيس الكيان وإنقاذه من الأخطار.

وعادة ما يسعى الأمنيون والعسكريون إلى غطاء سياسي لقراراتهم وخططهم، وليس أسهل من الحصول على مثل هذا الغطاء من رجل مهووس بالمنصب كنتنياهو.

كان "داني ياتوم" يرأس جهاز الموساد المكلف بالتجسس الخارجي وتنفيذ الأعمال القذرة كالاغتيالات وغيرها، فوضع ملف حركة حماس ورئيس مكتبها السياسي خالد مشعل آنذاك (1997) على طاولة الحكومة، فوافق نتنياهو على فكرة وخطة اغتياله داخل أراضي المملكة الأردنية الهاشمية، والتي كانت على المستوى الرسمي قد انفتحت انفتاحا ملحوظا على "عملية السلام" وتبادلت السفارات مع إسرائيل، كثمرة لاتفاق وادي عربة الذي يحوي تفصيلات وملاحق بمئات الصفحات.

ولكن خطة الاغتيال فشلت واعتقل عملاء الموساد الضالعون في الجريمة من قبل الأمن الأردني، وغضب العاهل الأردني الراحل الملك حسين آنذاك كثيرا؛ فهو الذي أظهر حسن نية للكيان، ودافع بنفسه أو عبر مساعديه ورجاله عن تلك العلاقة مع الكيان، والنتيجة انتهاك للسيادة الأردنية، ومحاولة اغتيال مواطن يحمل الجنسية الأردنية ويعمل بترخيص رسمي تحت سمع وبصر أجهزة الدولة الأردنية (نشاط مشعل كان سياسيا وإعلاميا ولا علاقة له بالخطوات الإجرائية التنفيذية للعمليات التي تنفذها حركته في الداخل نهائيا) وبطريقة خبيثة عبر تسميمه بجهاز خاص، واتخاذ السفارة الإسرائيلية في عمان وكرا لمثل هذه الجريمة، وهدد الملك: في حال وفاة مشعل سينفذ حكم الإعدام بعنصري الموساد المعتقلين، أيضا سيلغي اتفاقية وادي عربة ويقطع العلاقات تماما مع إسرائيل.

ولم تهدأ العاصفة التي نجمت عن تلك المحاولة الإجرامية إلا بعد تسليم ترياق المادة السامة التي حقن بها مشعل إلى السلطات الأردنية، وإطلاق سراح مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين من سجون الاحتلال، وقد كان محكوما بالسجن المؤبد مع مجموعة أخرى من المعتقلين الفلسطينيين.

ولكن تلك العملية التي سببت فضيحة لنتنياهو والموساد وشُكلت بسببها لجنة تحقيق، ربما تكون عملية تصعيد نتنياهو وتحضيره ليكون صاحب أطول فترة بقاء في منصب رئيس الوزراء، وصنعت مستقبله السياسي، أيضا أكدت على مركزية وسيطرة وهيمنة الدولة العميقة المتمثلة بالأجهزة الأمنية الاستخباراتية على مفاصل الكيان، ونستنتج من ذلك:

1- أجهزة المخابرات ومنها الموساد كما في مثال محاولة اغتيال مشعل، تقدم ما تريد وتحجب ما تريد عن المسؤول السياسي، خاصة إذا كان قد انقطع عهده بالعمل العسكري والأمني فهو يتلقى منها المعلومات، التي تخدم رؤيتها وتصوراتها بعيدا عن رأيه وتصوراته سواء توافق معها أم لا.

2- المسؤول السياسي من عينة نتنياهو ينفذ ما يقدمه الجهاز الأمني دون نقاش، فقط يظهر أنه صاحب القرار والصلاحيات، وهي لعبة نفسية ذكية معروفة وقديمة، بحيث تحدد الخيارات أمام المرء وتقول له اختر ما تشاء، ولكنك تعرف أيا من الخيارات سيشير إليه.
هذه الأجهزة بحكم ما تحظى به من ثقة مطلقة، وغموض وسريّة وموازنات ضخمة أصابها الكبر والغرور، بحيث ترى نفسها فوق كل سياسي أو مسؤول أيا كان منصبه وموقعه. ومن السذاجة التصديق بأنها تلتزم بنتائج الانتخابات وتضع نفسها تحت تصرف من تراه لا يعرف شيئا

3- هذه الأجهزة بحكم ما تحظى به من ثقة مطلقة، وغموض وسريّة وموازنات ضخمة أصابها الكبر والغرور، بحيث ترى نفسها فوق كل سياسي أو مسؤول أيا كان منصبه وموقعه. ومن السذاجة التصديق بأنها تلتزم بنتائج الانتخابات وتضع نفسها تحت تصرف من تراه لا يعرف شيئا أو كمن تسلم كتابا ضخما بلغة لا يعرف منها حرفا.

4- ولا شك أن تلك الأجهزة لديها أدوات ناعمة وخشنة لإزاحته إذا رأت أنه يسبب لها الصداع، فهي تخترق كل الأوساط وتتجسس على كل الأفراد، ولديها ملفات سوداء وجنائية مجهولة تظهرها إذا شاءت؛ تخص الساسة والمسئولين الحكوميين.. وهم يدركون هذا جيدا.

5- شخص مثل نتنياهو ليس لديه مانع من قبول الخضوع الطوعي لأجهزة الجيش والمخابرات ما دام في موقع القيادة السياسية، ويستمتع بتمزيق وتشتيت خصومه السياسيين ويتلذذ بامتيازات الحكم، وينشط في العلاقات العامة خاصة الخارجية منها، أيضا ربما هو فعلا مقتنع بأنها تعرف مصلحة الحركة الصهيونية أكثر منه ومن غيره، فلا داعي لمحاولة الوقوف في وجهها.

6- نلاحظ في موضوع محاولة اغتيال مشعل؛ أنه صبت الفضيحة واللوم فوق رأس نتنياهو فهو الذي أعطى الأمر. وقانونيا مؤسسة الموساد تتبع رئيس الوزراء، وهذا بروتوكول مريح لتلك الأجهزة فهي في حال فشلت في أمر وافتضح أمرها كما في حالة محاولة اغتيال مشعل، فستصب اللعنات فوق رأس الهرم السياسي، وإذا استوجب عليها دفع ثمن ما، فسيكون استبدال رئيس جهاز أو وحدة، وتستمر المؤسسة في عملها وأخذ موازناتها وتنفيذ مخططاتها، لأنها مؤسسة لا مزرعة لشخص ما. وقادة المؤسسات العسكرية والأمنية يدركون ذلك؛ أي مهما كان إنجاز رأس المؤسسة وتاريخه فإنه قد يضحَّى به إذا لزم الأمر، ولكن المؤسسة تستمر في عملها وبرامجها.

هذه إضاءة على حال الكيان الذي لا نزال ننظر إليه من نافذة الكنيست أو مكتب رئيس الحكومة.. ولكن لا بد من حديث آخر لتوسعة الثغرة في جدار التفكير النمطي الذي يرى الكيان عبر ما تفرزه انتخابات الكنيست فقط!
التعليقات (0)