لا يقوى قارئ هذا الكتاب بعد تيقنه من أن عنوانه المبهم "
الدولة المستحيلة" إنما يراد به تحديدا "
الدولة الإسلامية"، إلا أن يرفع صوته متسائلا: كيف يجازف أكاديمي مرموق بإطلاق هذه الدعوى العريضة، ووقائع التجربة التاريخية شاهدة على قيامها، مع توارد بشارات الوعود الدينية الإسلامية على عودتها مرة أخرى في قادم الأيام؟
هذا السؤال لم يكن غائبا عن فصول وصفحات كتاب "الدولة المستحيلة.. الإسلام والسياسة ومأزق
الحداثة الأخلاقي" للبروفيسور
وائل حلاق، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، سنة 2014، وقد بدا واضحا أن تركيز المؤلف على إبراز طبيعة الحكم الإسلامي ومعالمه كنموذج ومفارقته بالكلية للدولة الحديثة إنما كان يستبطن ذلك السؤال، لتتمدد إجابته المحكمة على مساحة واسعة من صفحات الكتاب.
أطروحة الكتاب الكلية، كما وصفها المؤلف نفسه، بالغة البساطة، فهي تقول إن مفهوم "الدولة الإسلامية" مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة.
استحالة تحقق مفهوم الدولة الإسلامية، يرجع إلى أمرين: أولهما: اختلال التصورات بشأن نموذج الحكم الإسلامي المطبق طوال اثني عشر قرنا، ما قبل الحقبة الاستعمارية، المختلط بالتوهم المساوي له بالدولة الحديثة. وثانيهما: "افتراض الخطابات الإسلامية المعاصرة أن الدولة الحديثة أداة للحكم محايدة، يمكن استخدامها في تنفيذ وظائف معينه طبقا لخيارات قاداتها وقراراتهم.." باعتبارها وعاء فارغا يتسع لدولتهم الإسلامية التي ستطبق "القيم والمثاليات المتأصلة في القرآن" كتلك التي حققها الرسول عليه السلام في "دولته الصغيرة".
ويتعين على قارئ "الدولة المستحيلة" حتى يتمكن من استيعاب مقولات الكتاب الكلية، التشبع التام بتفاصيل التغاير الجوهري، والاختلاف الكلي بين الدولة الحديثة ونموذج الحكم الإسلامي، وقد جهد المؤلف في استقصاء وجوه تغايرهما واختلافهما، ليصل في نهاية المطاف إلى مقولته الصادمة "الدولة المستحلية".
فما هو نموذج الحكم الإسلامي، الذي يجادل حلاق بشدة على أنه مغاير تمام المغايرة، ومختلف جذريا عن نموذج الدولة الحديثة؟ ولماذا اعتبر حلاق الخطابات الإسلامية المعاصرة التي تفترض في الدولة أنها أداة حكم محايدة قاصرة في تصوراتها المبنية على توهمات غير مطابقة للواقع؟ ولماذا كانت الدولة الإسلامية مستحيلة التحقق باستخدام إطار الدولة الحديثة؟
اقرأ أيضا: أطروحة "الدولة المستحيلة" بين مؤيديها ومنتقديها
رؤية تشخيصية لمشكلة "الدولة الإسلامية"
في مقدمته التأسيسية الهامة يتحدث البروفيسور حلاق المولود في مدينة الناصرة، إحدى المدن الفلسطينية المحتلة، من أسرة مسيحية، عن أن "المسلمين اليوم قد قبلوا بمن فيهم كبار مفكريهم وعلمائهم بالدولة الحديثة كأمر مفروغ منه وكحقيقة طبيعية، وافترضوا في أغلب الأحيان أن هذه الدولة لم تكن قائمة على مر تاريخهم الطويل فحسب، بل ساندتها أيضا سلطة القرآن نفسه".
ونتيجة لذلك، يرى حلاق أن "مسلمي اليوم يواجهون تحدي التوفيق بين حقيقتين: الأولى هي الوجود الحقيقي للدولة وحضورها القوي الذي لا يمكن إنكاره، والثانية هي الحقيقة الديونطولوجية (الأخلاقية الواجبة) المتمثلة في ضرورة استعادة شكل من حكم الشريعة، ويزيد من صعوبة هذا التحدي أن الدولة في الدول الإسلامية لم تقم بالكثير في سبيل إعادة تهيئة أي شكل مقبول من حكم الشريعة الأصلي".
ونقل حلاق عن جماعة الإخوان المسلمين المصرية إعلانها الذي رأت فيه أن "الدولة المدنية كتعبير عصري عن الدولة الحديثة بما يتلاءم مع المتغيرات الجديدة لا يتعارض مع تطبيق الشريعة الإسلامية، لأن الإسلام هو المرجعية العليا للأوطان الإسلامية أو هكذا يجب أن يكون الحال. فالدولة الحديثة بما فيها من آليات ونظم وقوانين وأجهزة إذا لم يكن فيها ما يتعارض مع ثوابت الإسلام القطعية فلا يوجد ما يمنع من تطويرها.. و"لا تعارض للدولة المدنية أو القومية مع الشريعة الإسلامية".
علق حلاق على العنوان الفرعي الأخير من إعلان الإخوان المسلمين بقوله: "لكن هذا التناقض وارد بالتأكيد، ذلك أن أطروحة هذا الكتاب، كما ألمحنا توضح أن أي تعريف لدولة إسلامية حديثة متناقض ذاتيا بصورة جوهرية.." لانطوائه على تناقض داخلي (سيأتي بيانه)، وشدد حلاق على أن "ذلك التناقض الذاتي الأصيل في مفهوم الدولة الإسلامية الحديثة يقوم في الأساس على مأزق الحداثة الأخلاقي".
يبدو واضحا من مقدمة المؤلف التأسيسية مدى تشديده على أن الدولة الحديثة لا تصلح إطارا لإقامة الحكم الإسلامي، ومن الخطأ الكبير اعتبارها أداة حكم محايدة كما تفترض الخطابات الإسلامية المعاصرة، كما أبدى حلاق اعتراضه على مسلك الاتجاهات الإسلامية – وفي صدارتها الإخوان المسلمين – التي رأت أنه لا تعارض بين الدولة المدنية الحديثة مع الشريعة الإسلامية، ما يعني أن نقده في الأساس موجه لها، وأن ما تبشر به من إمكانية إقامة الدولة الإسلامية سيفضي حتما إلى "الدولة المستحيلة".
ويظهر من نقد حلاق لمنهج الإسلاميين التوفيقي بين الدولة الحديثة والحكم الإسلامي، وتصريحهم بعدم وجود تعارض أو تناقض بينهما، أنه لا يرتضي هذه التوفيقية التي غالبا ما تتذرع بالتمييز بين المفاهيم المشبعة بحمولات أيدلوجية وفكرية وبين صفتها الأداتية الإجرائية، أي اتخاذها كآلية إجرائية محايدة، مشددا على أن "الدولة تمتلك ككيان متمركز حول الإنسان، ميتافيزيقا تستقر ضمن حدودها بوصفها إرادة سيادية، وتولد الميتافيزيقا معانيها الخاصة، وهذا يعني أن نظراتها المعينة إلى العالم هي من صنعها وملتزمة بمعاييرها الخاصة..".
اقرأ ايضا: ما هي "الدولة المستحيلة" في أطروحة وائل حلاق؟
الدولة الحديثة: نشأتها
لشرح أطروحة الكتاب الكلية، استفاض المؤلف عبر فصول كتابه السبعة، في بيان وتفصيل الكلام حول "الحكم الإسلامي النموذجي"، و "الدولة الحديثة النموذجية"، واعتنى في الفصل الأول برسم حدود مفهوم "النموذج" (Paradigm) باعتباره مفهوما مركزيا شارحا للأطروحة بمجملها. وقد قدم نقدا عميقا لنظرية التقدم واصفا لها "بالنظرية الدوغمائبة.." التي غالبا ما تتولد من رحمها تهمة الماضوية لكل قديم في تقديس كل حديث والإعلاء من شأنه.
في رصده وتتبعه لنشأة الدولة ذات المنشأ الأوروبي، ذكر حلاق أنه غالبا ما يشار "إلى أن الدولة تعني أشياء مختلفة باختلاف الناس، وسرعان ما يكشف أي مسح للدراسات ذات الصلة عن الانطباع الجلي بأن كل مفكر مبدع نظر إلى الدولة بطريقة متفردة، تتراوح من نسبة دافع أخلاقي عضوي إليها (هيغل)، إلى اعتبارها قائمة على القانون الطبيعي وحالة الطبيعة (هوبز وشميت)، وقد اعتبر ماركس الدولة نتاجا للسيطرة الاقتصادية لطبقة ما على طبقة أخرى...".
وبعد مناقشته لتلك النظريات التي أبدعها مفكرون غربيون، لافتا إلى أن ذلك "الاختلاف الكبير ليس في جوهره سوى تنوع في المنظور"، فرق حلاق "بين شكل الدولة ومضمونها، فاعتبر المضمون متغيرا أو مجموعة متغيرات، والشكل مكوَّنا من بُنى أو خصائص أساسية امتلكتها الدولة في الواقع لمئة عام على الأقل ولا يمكن من دونها تصورها كدولة قط، كونها أساسية".
واعتبر حلاق أن شكل الدولة "ليس فقط عنصرا جوهريا لوجود الدولة، بل هو الذي يكون ماهيتها كدولة"، مشيرا إلى أن "المضمون هو المتغير أو القابل للتغيير، فعلى سبيل المثال، قد يسيطر على الدولة ليبراليون أو اشتراكيون أو ماركسيون أو قلة، أو أي من تلك التسميات، لكن هؤلاء على الرغم من تأثيراتهم المتنوعة على الدولة ومجتمعها لا يستطعيون تغيير أشكال الدولة..".
وجوابا عن السؤال الجوهري الذي طرحه: ما هي السمات التي من دونها لم تستطع الدولة الحديثة أن توجد، ولن تستطيع في المستقبل المنظور أن توجد؟ حدد حلاق تلك السمات والخواص التي لا تكون الدولة إلا بها بخمسة خواص 1- الدولة نتاج تاريخي محدد 2- السيادة وميتافيزيقيتها 3- التشريع والقانون والعنف 4- الجهاز البيروقراطي العقلاني 5- اليهمنة الثقافية أو تسييس الثقافة..".
تحديد هذه الصفات الجوهرية للدولة والتي لا تكون إلا بها (خلاصة إنتاج الفلاسفة والمفكرين الغربيين) جعل حلاق يقطع بأن التجربة الإسلامية لم تعرف من قبل شيئا اسمه الدولة بهذه السمات والصفات، وإنما حكم المسلمون أنفسهم طوال الاثني عشر قرنا السابقة، ما قبل المرحلة الاستعمارية بنظام آخر مختلف، ألا وهو نظام الحكم الإسلامي، فما هي طبيعة ذلك النظام؟ وما الذي جعله يفترق افتراقا جوهريا عن الدولة الحديثة، فتغدو كل المساعي التي تروم إقامة حكم إسلامي متوسلة في ذلك بالدولة الحديثة تقع في دائرة المستحيل الذي لا يمكن تحققه أبدا؟ ... يتبع