كل أمة لها كيان، فما بالك بأمة صنفت ووصفت بأنها "خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر"؟ ولكنها قبل هذا وذاك، هي أمة مدفوعة بإيمانها الذي في صلبه عقيدة توحيدها في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات للإله المعبود الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد.
ذلك الكيان يمتد على اتساع رقعة المعمورة في قاراتها، ومن تلك القارات القارة الأوروبية، فكان من الطبيعي أن يكون لذلك الكيان هيئة متخصصة مستقلة، في عضويتها وأمانتها ثلة من العلماء الذين يقفون على الثغور الشرعية بما يؤمن احتياجات ذلك الكيان في تلك القارة.
وكما أن كل عمل عظيم تجد وراءه فكرة تبدأ فتكبر وتتبلور، فإن هذا ما حدث عندما ولدت فكرة تأسيس "المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث"، فعقد اللقاء التأسيسي لهذا المجلس في مدينة لندن في بريطانيا، تلبية لدعوة من قبل اتحاد المنظمات الإسلامية في
أوروبا، وذلك في الفترة 21-22 من ذي القعدة 1417، الموافق 29-30 من شهر آذار/ مارس 1997 م.
وبحضور ما يزيد على خمسة عشر عالما، فقد تم الاتفاق على أن يكون المقر الرئيس للمجلس في مدينة دبلن في الجمهورية الإيرلندية، وتم إقرار مسودة الدستور فالنظام الأساسي، ومن ثم اتُّفق على أهداف المجلس، ووسائل تحقيق الأهداف، ومصادر الفتوى وضوابطها، وطريقة إصدار الفتوى، والقرارات المتعلقة بها، والتي من أروع ما روعي فيها الانضباط الشرعي المواكب لمستجدات العصر الذي نعيش، فلا يحق إصدار الفتاوى باسم أعضاء المجلس، ولكن باسم المجلس نفسه، ولكل عضو أن يفتي بصفته الفردية الشخصية غير ممثل للمجلس، ولا تكون فتواه الفردية تلك ممثلة للمجلس بعينه.
لا شك في أن "المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث" كيان يفتخر به ويعد نموذجا لتطور التخطيط والوعي لدى المنظمات الإسلامية في أوروبا في إدراكها لاحتياجاتها كأمة، جزء من أمتها الكبرى، تعتني بمستقبل أفراد جاليتها الأوروبية المسلمة. ولا شك أيضا أن في استجابة ثلة من العلماء الأشاوس لتأسيس هذا المجلس وكينونته قبل أقل من عقدين من الزمان، ما يدعو للفخر بهؤلاء العلماء في استقرائهم لحاجة المسلمين في تلك القارة الأوروبية لمن يفتي لهم، وليس في أمور دينهم الاعتيادية، بل من ينشئ البحوث وينفذ الدراسات التي هي مدفوعة بمستجدات وتطور الحياة على الساحة الأوروبية والغربية والعالمية بشكل أوسع.
ولهذا، نقولها وبكل فخر، إن هذا المجلس يمكن وصفه بأنه من أكثر مجالس الإفتاء الفقهية البحثية الحديثة ديناميكية وتناغما مع العصر، إذا ما أخذنا نسبة عدد علماء المجلس إلى تعداد سكان القارة الأوروبية مقارنة بالمجالس الفقهية العالمية الكبرى.
ولكننا كي نكون منصفين في التقييم وبطريقة علمية في مدى الجودة النوعية للمجلس، فلا بد لنا أن نراجع أهداف المجلس ونقيم ما تحقق منها بحسب ما نصت عليه تلك الأهداف في موقع المجلس على الشبكة العنكبوتية كما يأتي:
"1. إيجاد التقارب بين علماء الساحة الأوروبية، والعمل على توحيد الآراء الفقهية فيما بينهم، حول القضايا الفقهية المهمة.
2. إصدار فتاوى جماعية تسد حاجة المسلمين في أوروبا وتحلُّ مشكلاتهم، وتنظم تفاعلهم مع المجتمعات الأوروبية، في ضوء أحكام الشريعة ومقاصدها.
3. إصدار البحوث والدراسات الشرعية التي تعالج الأمور المستجدة على الساحة الأوروبية بما يحقق مقاصد الشرع ومصالح الخلق.
4. ترشيد المسلمين في أوروبا عامةً وشباب الصحوة خاصةً، وذلك عن طريق نشر المفاهيم الإسلامية الأصلية والفتاوى الشرعية القويمة".
نحن نجل علماءنا ومشايخنا ونقدرهم أيما تقدير يناسب قدرهم، بل يتعداه، فـ"هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟". ولكننا مطالبون بمبدأ الإحسان؛ فالله عز وجل يحب المحسنين، ورسولنا عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نتقن العمل الذي نعمله مهما كان حجمه، فكيف إذا كان ذلك العمل يخص أمة مسلمة وأجيالا مسلمة تعيش تحديات تواجهها في دينها وثقافتها؟ ولهذا، فإنه يجب علينا أن نصدع بالتقييم الجودي النوعي، ولو في مساحة مقالة كهذه ربما يبنى عليها لبحث علمي دقيق يؤصل لتقييم تفصيلي للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
وكما كنا نود أن يمتد التقييم الجودي النوعي، ليس للأهداف فحسب، بل لوسائل تحقيق تلك الأهداف التي ندعها لبحث علمي بعيدا عن مقال بسيط مثل هذا الذي نكتبه.
نتساءل اليوم: هل تم تحقيق تلك الأهداف؟ ولنأخذ الهدف الأول: فهل نجح المجلس في إيجاد التقارب بين علماء الساحة الأوروبية؟ وهل عمل على توحيد آرائهم الفقهية في القضايا المهمة؟ أسئلة كثيرة تتفرع من خلال هذا الهدف، ومنها: من هم علماء الساحة الأوروبية؟ بالطبع هؤلاء ليسوا ثابتين فمنهم من يتغير ومنهم من ينتقل من مكانه ومنهم من يستقيل ومنهم من يتوفى.. الخ، وأيضا، من يمثل هؤلاء العلماء من خلال الجالية المسلمة؟ وهل وصل هؤلاء العلماء إلى جيل الشباب وتواصلوا معهم وتحدثوا معهم بلغتهم في بلدانهم الأوروبية؟ ومن هنا ينبثق سؤال آخر: أي تقارب إذن قد تم؟ وبين أي علماء؟ ومن يمثل هؤلاء العلماء الكرام؟ دعونا ننطلق قليلا في حيثيات أخرى لهذا الهدف: ما هي القضايا المهمة التي يسعى المجلس لتوحيد الأراء فيها؟ لا بد لهذا من تعريف نتكاشف به مع مجلسنا الذي نعتز بالانتماء إليه وإلى شيوخه الأجلاء. واسمحوا لنا وبكل حب وإجلال لكم علماء مجلسنا الكريم: أليست الأعياد وبداية رمضان من القضايا المهمة؟ أليس الوصول لجيل الشباب ومخاطبتهم بلغة جيلهم وعصرهم قضية مهمة لم تعالجوها؟ نتساءل: أليس معظم علماء المجلس لا يتحدثون متقنين بالقدر المطلوب لغة البلد التي يتحدث بها أهلها حتى تصل فتواهم إلى أهل ذلك البلد وخصوصا جيل الشباب؟
ونسأل علماءنا الذين نجلهم: لماذا لا تتخيرون من جيل الشباب من أهل البلد من يتعلم على أيديكم وفي مدارس فتواكم حتى لا ينطقوا فقط باللغة العربية، اللغة الأم، بل لغة البلد التي ينتمون إليه؟
ولتسمحوا لنا علماءنا الأفاضل، بأن ندقق معكم في الهدف الثاني من أهداف مجلسكم ومجلسنا الموقر: هل كانت الفتاوى الني صدرت قد سدت حاجة المسلمين في أوروبا، فحلت مشكلاتهم ونظمت تفاعلهم مع المجتمعات الأوروبية في ما يتفق مع الشريعة الإسلامية؟ لا بد لنا أن نكون منصفين، فقد أثرى المجلس الجالية المسلمة الأوروبية بأبحاث علمية رصينة تفاعلت مع احتياجات الجالية المسلمة، كيفما وعندما برزت وأوصلت للمجلس، ونحن نفتخر اليوم بوجود علماء أجلاء اجتهدوا وأبدعوا في فتواهم لدرجة القول إنهم تمايزوا عن الكثير من المجالس التي تتمتع بمصادر تمويل تفوق المجلس الأوروبي في تواضع مصادر تمويله. ولكننا نتساءل: هل وصلت تلك الفتاوى لغالبية الجالية المسلمة والى قطاع الشباب بشكل خاص؟ وأيضا، هل توجد نخبة بحثية في مجلسكم الموقر تتحسس حاجات الجالية المسلمة في أوروبا؟ وربما الأهم أن نسأله وبكل صراحة: هل عندكم قياسات وأسس تختبرون فيها تحقيق هدفكم هذا ونتيجته في أنه قد نظم تفاعل الجالية المسلمة في المجتمعات الأوروبية؟ وأي مجتمعات على وجه التحديد وما خصائصها؟
ومما لا شك فيه، فقد قام المجلس سعيا لتحقيق هدفه الثالث بإصدار الدراسات والبحوث الشرعية التي عالجت كثيرا من الأمور المستجدة في أوروبا تماشيا مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وعلى سبيل المثال موقف المجلس من عملية نقل الدم والأعضاء وغيرها من القضايا الحرجة. ولا بد لنا أن نسجل للمجلس السبق في هذا؛ خصوصا إذا أدركنا العدد المحدود المكون لأعضاء المجلس، وتواضع مصادر تمويلهم إن لم تكن ذاتية من أعضائهم.
ولكن: لا بد من وقفة إنصاف ونحن نتدارس تقييم الهدف الرابع من أهداف المجلس والخاص بترشيد المسلمين في أوروبا عامةً وشباب الصحوة خاصةً آخذين طريق نشر المفاهيم الإسلامية الأصلية والفتاوى الشرعية القويمة! لا نشك أبدا في دور المجلس بهذا الشأن في عملية إصدارات وورقيات ومجلات وفتاوى، ولكن لا بد لكل عمل تقوم به من قياسات تختبر بها مدى وصول تلك المفاهيم وتحقيق المناط من وراء تلك الأهداف. ونحن نتساءل: هل حقا وصلت تلك المفاهيم إلى ذلك الجيل من شباب الصحوة، أم إننا نتحدث لأنفسنا ومع بعضنا كمشايخ ومنظرين وعلماء وكتاباتنا لا تبرح أدراجها ورقائقها الإلكترونية؟
وفي عجالة بسيطة من ضيق المساحة للكتابة المطولة، نلحظ الكثير، ولكن في أهمه ما يأتي:
أولا: وجود هوة كبيرة بين علمائنا والجالية المسلمة، وعلى الأخص المنظمات الإسلامية المرموقة في
أوروبا.
ثانيا: المجلس لا يتواصل مع الجالية والمنظمات الإسلامية بالقدر التفاعلي المطلوب كي يصل صوته فيكون مؤثرا في ما سمي جيل الصحوة وجيل الشباب.
ثالثا: الحاجة لعلماء المجلس أن يتكلموا ويتواصلوا بلغة أهل البلد الذي يقطنون فيه.
رابعا: عدم وجود جيل جديد من العلماء الشباب، ومن ذوي الاختصاصات العلمية الطبيعية والهندسية والإنسانية، بخلفية شرعية عميقة، وعلى علم ودراية بالمذاهب المختلفة.
خامسا: المجلس يظهر للجالية في أوروبا وكأنه خاص بالجالية من أصول عربية؛ فذلك تقليص سحيق لدوره، ويمكنك إدراك ذلك من خلال علماء المجلس الكرام ذاتهم وقد تفردوا بالتحدث العلمي باللغة العربية في غالبيتهم. وإذا كنت في بحث عن موقع المجلس على الشبكة العنكبوتية، فإنك تجده غير محدث كما ينبغي وباللغة العربية إلا القليل الذي عفى الزمن على ترهله بلغة أخرى.
سادسا: وجود عطب شديد في الجهازين الإداري والتشغيلي للمجلس، ونلحظ الهوة الشديدة بين هذين الجهازين ومجلس البحوث والفتوى.
سابعا: شح مصادر التمويل بالقدر الذي يتناسب مع أهدافه المعلنة.
ثامنا: صدور فتاوى للمجلس لا يلتزم بها مشايخ المجلس أنفسهم في مساجدهم التي يؤمون المسلمين فيها. وقد يقول قائل: هم لا يملكون القرار في تلك المساجد! وعندها نسألهم: كيف يتسنى لهم إذا لم ينجحوا في تأثيرهم ودعوتهم في مساجدهم، أن ينجحوا في تأثيرهم في الجالية المسلمة بشكل أوسع؟
تاسعا: ضعف تواصل المجلس مع المؤسسات الرسمية في بلدانهم ليكونوا مؤثرين، كما هو الحال مثلا في قوانين الأحوال الشخصية الخاصة بالمسلمين.
عاشرا: التواصل مع الجالية المسلمة والمنظمات الإسلامية بطريقة تفاعلية ديناميكية عبر الشبكات الاجتماعية، متخاطبين باللغتين العربية، ولغة أهل البلد الذي يقطنون فيه.
أحد عشر: لا توجد قياسات معروفة معلنه لتقييم أداء المجلس، بل لا توجد آليات لتنفيذ تلك القياسات.
وقبل أن نختم مقالنا، فإنه لا بد لنا أن نعيد التذكير بأننا ومن صميم واجبنا نجل ونقدر علماءنا في مجلسهم الموقر، ولكننا ندون هنا من باب التقييم والنصح ما استطاعت به نفسنا وكلماتنا في تقصيرها، ونسطر كلماتنا وبكل شفافية وصراحة لنقول: إن على عاتقنا نحن، أفرادا ومؤسسات، واجبات نلخص منها أربعة أمور:
أولا: واجب عمل كل فرد منا في الجالية المسلمة على رفع الوعي بـ"المجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء" والدور الذي يقوم فيه، وذلك حتى يتلاقى جهد العلماء بجهد الأفراد المتلقين.
ثانيا: قيام المنظمات الإسلامية بالتعاون والتخاطب مع المجلس ونشر الوعي به، وذلك بين أفراد جالياتهم التي ينتمون إليها.
ثالثا: قيام الجمعيات الخيرية في أوروبا بتمويل المجلس بنسبة مئوية تتناسب مع حجم أعمالها وعائداتها السنوية، فلا يترك المجلس عرضة للتأثر في عدم تحقيق أهدافه تبعا لشح مصادر تمويله.
رابعا: أن يقوم الأفراد والمنظمات الإسلامية والجمعيات الخيرية بمساءلة سنوية للمجلس بمختلف أجهزته العلمية والإدراية والتشغيلية، عن تحقيق أهدافه وفقا لقياسات جودة نوعية يتفق عليها وتنشر مسبقا.
وفي الختام، فإننا نطالب "المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث" بإيجاد قياسات لتقييم أدائه واستحداث آليات لعمل تقويم ومساءلة ذاتية سنوية، ليس فقط في ما يخص أداءه عن العام المنصرم، بل عن تحقيق أهدافه بشكل عام ودوري.
ندعو الله العزيز القدير أن يجزي علماءنا الأفاضل، في مجلسهم الموقر، خير الجزاء وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم في يوم لا ظل فيه إلا ظله سبحانه وتعالى، ونسأل الله الغفور الرحيم أن يغفر لنا زلاتنا وأن يتجاورز عنا في ما أخطأنا، ونقدم لعلمائنا الأجلاء كل الحب والتقدير، وفي الوقت نفسه الاعتذار في أشده عن أي خطأ أو زلل وقع منا مهما كان تقديره منا.
الكاتب: رئيس مجموعة أبحاث هندسة البرمجيات؛ جامعة غرب إنجلترا - بريستول- المملكة المتحدة.