من بيروت إلى باريس... مصائب قوم عند قوم فوائد!

لأنني على مدار يوم الخميس 12 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي لم أتابع وسائل الإعلام المرئية منها والمسموعة، ولأنني لم أبحث أيضا في الأخبار المنشورة على المواقع الإخبارية والصحف في ذلك اليوم، فقد فاتتني أخبار الأحداث المتلاحقة هنا وهناك في ذلك اليوم، ولأن مواقع التواصل الاجتماعي قد اعتاد أغلب روادها على توالي تلك الأحداث وربما أصابهم شيء من اللامبالاة من تكرار الحديث عنها بلا جدوى، وخصوصا ما يتعلق بأخبار الوطن العربي وما يجري في سوريا وفلسطين واليمن ومصر وما حولها، فلم أشعر بحدوث شيء جديد غير معتاد أثناء تصفحها أو لأن تلك الأمور لا تثير إهتمام الكثير من مُرتاديها... إلا إنني في صباح الجمعة وبعد سماعي لإحدى النشرات لإذاعة إخبارية مشهورة، فقد لفت انتباهي خبر تفجيرات في بيروت بالضاحية الجنوبية (تفجيران متتابعان نتج عنهما مقتل أكثر من أربعين شخص، وإصابة ما يقرب من مائتين آخرين في معقل حزب الله وبين أنصاره)، وقد كان لبنان في هدنة من مثل تلك الإعتداءات منذ ما يقرب من عام تقريبا !

 فور سماعي للخبر تجددت لدي مشاعر الحسرة والألم على واقع عربي يزداد سوءا وهرجا وعلى إنسانية تزداد إنحطاطا وكدرا يوما عن يوم. ما ذنب هؤلاء القتلى الذين هم أغلبهم أو ربما كلهم من المدنيين الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في حرب ورط حزب الله نفسه فيها في سوريا، ويقتل بالوكالة عن إيران والنظام السوري منذ ما يقرب من أربع سنوات في أبناء الجوار السوري المختلفين معهم طائفيا أو سياسيا. نعم أول المتضررين هم المدنيون الذين قتلوا في التفجيرين وأهلهم في منطقة برج البراجنة، ولن يستطيع حسن نصر الله ولا بشار الأسد تعويضهم عن ضحاياهم شيئا، غير المزيد من كلمات العزاء بالفداء والتضحية والموت والشهادة من أجل راياتهم الصفراء والخضراء الملطخة بالدماء البريئة هنا وهناك، والتي كانت يوما فخرا للعرب والمسلمين أوفات شموخها في وجه الصهاينة.

وإذا اتسع الأفق فسنجد قائمة المتضررين تزداد من هؤلاء المئات وربما الألآف من أنصار الحزب والمتضررين بصورة مباشرة، لتشمل مئات الألاف وربما ما يقرب من مليوني لاجئ سوري يعيشون في لبنان، ويُعانون من الاتهام بالإرهاب والتضييق المستمر بسبب عدم اتباع أغلبهم للنظام السوري، فلن يجني هؤلاء غير مزيد من التضييق، وربما تطالهم أيادي الانتقام والثأر الغاشمة، ولن يستطيع مدبرو التفجيرات ومنفذوها توفير الحماية الكاملة لهم أو تخفيف وطأة التشرد والتضييق في المخيمات والحواجز عنهم.

يبقى المستفيد الأول هو نظام بشار الأسد في سوريا وداعموه من روسيا وإيران، تحت مبررات الحرب على الإرهاب وحماية العتبات المقدسة في دمشق وغيرها كما يزعمون.

هذا وقد أخبرت البحرية الروسية في رسالة لها مؤخرا سلطات الطيران المدني اللبنانية بإغلاق الممرات الجوية الغربية للبنان لمدة ثلاثة أيام لرغبة الروس في استخدام المجال الجوي في تلك المنطقة للعمليات في سوريا! انتهازية وتسلط لا رادع لها في ظل ما نعيش فيه من تخاذل وانبطاح وهوان (وما حدث من تركيا مؤخرا كشف ذلك الهوان الذي نعيش فيه، بل وذهب الكثير من بيننا إلى السخط من فعلة أردوغان ومطالبة روسيا بالانتقام والرد على ما فُعل بها!).

لم يسدل الستار على أحداث الجمعة بعد ولم تنطو صفحته مع ظلام الليل وانسلاخ النهار منه، فقد انتقل العرض إلى مسرح جديد والتُقطت الصورة بالطريقة المفزعة نفسها وأكثر في عاصمة الحب (باريس)، وقد حلت بها كارثة لم تعرف مثلها في تاريخها الحديث، وهي اعتداءات وتفجيرات 13 تشرين الثاني/ نوفمبر، وقد خلفت أكثر من 130 قتيل وما يقرب من ضعفهم من الجرحى والمصابين كانوا يستمتعون برومانسية المدينة ويستنشقون نسائم الحرية التي تملأ فضاءها الذي تتراقص فيه رايات السلام.

هذه المرة سمعت الخبر من أحد الرفاق الذي كان يتصفح وسائل التواصل الاجتماعية فقد امتلأت صفحاتها في تلك الليلة وما بعدها بأحاديث الأسف على ما وقع في باريس وعلى الضحايا الأبرياء، والتسخط على منفذي العمليات وبالحرص على التبرؤ منهم وتقديم الدعم النفسي ومؤازرة نظرائنا في الإنسانية من الفرنسيين، بل ووصل الحد إلى تحقير وذم من يطالبون بالمساواة بين ردود الفعل على قتل العرب في فلسطين وسوريا وغيرهم، وبين المشاعر الجياشة التي تتحرك للأبرياء في الغرب، حتى وصل الأمر ببعض الدول العربية بأن تضيء أبراجها الشاهقة بألوان العلم الفرنسي، وهو ما لم يحدث في حالة كان هناك أي حدث في دولة عربية يحتاج للتضامن وما أكثرها من أحداث ونكبات تمر بنا سريعا كما يمر الهواء الذي نتنفسه في صدورنا بكل حالاته.

حتى لا نبتعد عن الحديث عن جريمة باريس وما خلفته وما تبعها من تطورات، وما سوف يتبعها من تغيرات إنسانية (وهذا ما يشغلنا) وسياسية (وهذا ما سوف ينعكس أثره علينا!)، فإننا نذهب مباشرة وبالأخذ من الواقع الفعلي إلى الحديث عن المستفيدين والمتضررين من تلك الأحداث ونبدأ بالأخيرين لأنهم هم الأكثرين:

 - وقع الضرر أولا على مئات الضحايا الأبرياء وأهلهم بالطريقة المباشرة ذاتها التي وقع بها الضرر على المعتدى عليهم في لبنان، وعلى غيرهم من الآمنين في كل مكان تحدث فيه مثل تلك الاعتداءات بنوعها، أو ما يختلف عنها في الشكل ويتفق معها في المضمون كالنزاعات السياسية الحقيرة ومصالح الدول الساعية نحو التمدد وفرض النفوذ والسيطرة على مصائر الآخرين، ووقع الضرر على أمة متعايشة في سلام وفي بيئة حاضنة لمختلف الأعراق والأديان لم يكن يعكر صفوها إلا قليل القليل من الحوادث العرضية هناك.

- أي كان منفذو تلك العمليات وأي كانت البيئة التي خرجوا منها والجهات التي سهلت وصولهم لمبتغاهم وتقريبهم من أهدافهم، فيبقى المتضرر الأكبر من يومها وفيما يليها من الأيام وبتلقائية تداخل الأحداث وردود الفعل الملايين من اللاجئين السوريين الذين يعيشون في أوروبا، وخصوصا في فرنسا التي كانت الدولة الوحيدة الثابتة في موقفها من نظام الأسد بضرورة رحيله؛ لأنه يقتل شعبه ولأنه مصدر الإرهاب الأول. حدث يومها إضرام نيران في مخيم يسكنه 6 آلاف لاجئ أغلبهم من سوريا، في شمال فرنسا، ولو بشكل فردي وغير منظم... وتتابعت ردات الفعل المحذرة من اللاجئين ومن إيواء جموعهم في أوروبا رسميا وإعلاميا، ووصل الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن أعلن حكام 16 ولاية أمريكية على الأقل أنهم لن يستقبلوا أي لاجئين إضافيين من سوريا في أعقاب الهجمات التي شهدتها باريس، وقد صوت الكونغرس الأمريكي بأغلبية على وقف استقبال اللاجئين من سوريا والعراق لحين تطبيق إجراءات تدقيق أكثر صرامة.

- سواء قصد منفذو الاعتداءات (جهلا) خدمة الإسلام أو المسلمين، فقد وقع الضرر بشكل كبير على صورة الإسلام والمسلمين في الغرب وخصوصا في فرنسا، وكأن الغرض الحقيقي للمعتدين وعن علم وقصد هو تشويه تلك الصورة بما اقترفته أيديهم، فقد انبرى الإعلام الفرنسي منذ اللحظات الأولى وقبل الإعلان عن هوية منفذي العمليات لانتقاد المسلمين وما يسمونه (التطرف الإسلامي) وبشهادة محللين ونقاد هم أصلا من العرب والمسلمين، كما سارع اليمين المتطرف في فرنسا بالمطالبة بطرد العرب والمسلمين من فرنسا، وذلك تجديدا لخطاب الكراهية الذي تحجبه القوانين والنظم الفرنسية الضامنة بدورها سلامة وحرية كل من يحيا هناك.

 - عُقد بعد التفجير بيوم واحد فقط مؤتمر فينا الثاني حول الأزمة السورية، ولم يخرج المجتمعون فيه بشيء غير اتفاقهم على تشديد الحرب على الإرهاب المتمثل في تنظيم الدولة وجبهة النصرة (حسب اتفاقق أغلبهم)، والتسويف في مصير الشعب السوري عن طريق الاتفاق على عملية سياسية تبدأ فيما بعد ولم يتم التطرق فيها لمصير الأسد.

- أعلنت فرنسا الحرب على ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق، وبدأت طائراتها في قصف المدن السورية الخاضعة للتنظيم، ولم ولن يسلم من تلك الضربات المدنيين الأبرياء كما جرت العادة في تلك الحروب الانتقامية من الجيوش الغربية، واسألوا العراق وأفغانستان ومالي! علما بأن فرنسا لم تشارك في غزو العراق واتخذت موقفا أخلاقيا، على عكس رغبة الولايات المتحدة وقتها!

- إذا كانت قائمة المتضررين إنسانيا واسعة إلى هذا الحد، فهناك جانب آخر منتفع من تلك الأحداث وهو الجانب السياسي أو الجانب اللإنساني. فنجد ذلك أيضا في مصلحة النظام السوري الذي تحولت عنه الاتهامات الفرنسية بقتله لشعبه ومطالباتهم له بالتنحي عن السلطة؛ إلى حرب لخصومه الظاهريين والباطنيين المتمثلين في تنظيم الدولة وجبهة النُصرة والجيش الحر والكتائب الإسلامية.

- سارعت روسيا بمد يد العون لفرنسا من أجل كسب حليف كبير إلى جانبها في حربها ضد معارضي الأسد، وقد كان الفرنسيون ألد أعداء الأسد وأشد معارضي روسيا بأمره حتى لحظة اعتداءات باريس، ولكن الاعتداءات كانت بمثابة تحول كبير حيث أصبحت فرنسا تُعامل كحليف عسكري كما وجه فلاديمير بوتين تعليماته لبحريته، ولو أراد بوتين كسب فرنسا بأي طريقة أخرى غير التفجيرات لما استطاع، فربما عليه أن يشكر المنفذين والمدبرين لأنهم قدموا خدمات عظيمة له.

- أخيرا وربما يظهر الأمر هامشيا لدى البعض، فقد كان من بين المستفيدين من الأحداث الكيان الصهيوني المحتل في الأراضي الفلسطينية، حيث قررت سلطات الاحتلال بحسب إحدى الصحف الفرنسية إعادة إطلاق الأنشطة الاستيطانية، واعتماد سياسة القبضة الحديدية ضد الفلسطينيين بمن فيهم من يحملون الجنسية الإسرائيلية، كما قامت بحظر نشاط الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر بتهمة التحريض على العنف ضد المدنيين، والتواصل مع حركة حماس، والسعي إلى قيام خلافة إسلامية! ويبدو دائما أن إسرائيل هي المستفيد الأول من كل ما يجري حولها في الوطن العربي بل وفي العالم كله، حيث إنها ماضية في مشاريعها الاستيطانية وفي تقويض حلم الفلسطينين بالعيش في وطنهم بسلام دون أن يلتفت أحد لما ترتكبه من جرائم هناك فالعالم كله مشغول بحديث الإرهاب والحرب على الإرهاب وفقط.

.بقي شيء واحد هو تأكيد أن الإرهاب هو قتل النفس البشرية على اختلاف أجناسها بدون وجه حق وترويع الآمنيين غير المعتدين أو المحاربين من الناس، وتخريب المدنية، وتفتيت أواصر التعايش بين الشعوب على اختلاف الملل وتباين الأهواء والِنحل، ودمتم بسلام...