في آذار/ مارس من عام 2011، كنت على موعد مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لإجراء حوار تلفزيوني معه، وقبيل التسجيل دار بيننا حديث قصير، أخبرته بكل فخر أنني
مصري وشاركت في تغطية أحداث الثورة من ميدان التحرير، فرفع حاجبيه ورد: "شيء رائع، لابد وأنك تفتقد القاهرة في مثل هذه الأيام التاريخية، ولندن أصبحت مملة لك".
أجبته مؤكدا كلامه. وخلال الحديث لم يتطرق كلانا لا قبل الحوار ولا أثناء إجرائه للفظ "
الربيع العربي". حينها كان التونسيون قد أسقطوا بن علي وتم خلع مبارك والقذافي في طريقه إلى مصرعه والحديث منصب في كل الأوساط على الثورات العربية ودور الشباب الملهم.
في هذه الأثناء أيضا، كنت أتابع تغطية وسائل الإعلام الغربية لأحداث الثورات المندلعة، وكان الوصف الذي يطغى على صدارة الصحف والمجلات ومحطات التليفزيون هو انتفاضة وثورة وأفكار جديدة ملهمة، ثم لاحظت بعد عدة أشهر ظهور مصطلح "الربيع العربي" في سياق وصف ما يحدث في عدد من الدول العربية قبل أن يتسلل إلى ألسنة الدبلوماسيين الغربين، ثم إلى العالم العربي لاحقا.
لكن مع توالي الأحداث السياسية في أكثر من بلد عربي، والموقف الغربي الرسمي منها، بدأت أتشكك في هذه التسمية. والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن: وما الفرق إن أطلقنا على الأمر ثورة أو ربيعا؟
الحقيقة أن أمر المصطلحات السياسية خلال الأزمات مهم جدا وله دلالة تتجاوز مجرد المعنى الاصطلاحي للكلمة إلى الموقف السياسي من الحدث نفسه، فلن يقبل النظام المصري الحالي مثلا أن يصدر بيان من أية دولة له علاقات معها يصف عبد الفتاح السيسي بأنه قائد الانقلاب.
هناك فارق كبير بين الربيع والثورة. لنأخذ نماذج في البداية بين مدلول كلمة الربيع في السياق السياسي التاريخي الأوروبي. فخلال عام 1848 اندلع ما وصف بأنه ربيع أوروبا عن طريق حركات احتجاجية في فرنسا وإسبانيا وامتدت إلى دول أوروبية أخرى كبولندا والدنمارك وألمانيا، ولم تغير هذه الحركات من الأنظمة السياسية القائمة حينها، إذ استعادت قوى الأنظمة القديمة سيطرتها على المشهد مرة أخرى في غضون أشهر.
أما في ربيع براغ وثورة تشيكوسلوفاكيا المخملية فالأمر فيها أوضح، ففي عام 1968 وحين تولى ألكسندر دوبشك رئاسة الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، أراد الزعيم الجديد تطبيق اشتراكية ذات وجه إنساني قريب للنمط الديموقراطي، وطرح برنامجا يعتمد على إطلاق حرية الصحافة والتنقل وإلغاء الرقابة. لم يسكت الاتحاد السوفيتي وهو يرى زعيما يطرح مثل هذه الأمور مدعوما من المثقفين والشخصيات العامة في البلاد، فقرر بعد نحو سبعة أشهر، من طرح خطة الزعيم التشيكي، أن يجتاح البلاد نحو ربع مليون جندي من دول حلف وارسو بقيادة سوفيتية لتنحية دوبشك عن رئاسة الحزب، وأُرغم ألكسندر دوبشك على ترك رئاسة الحزب، وتم سحق آمال وأحلام الناس تحت جنازير الدبابات الغازية لينتهي الربيع بصيف دموي في آب/ أغسطس من العام ذاته.
وبعد مرور نحو عقدين وفي عام 1989 انتفض الطلاب هناك في يوم الطالب العالمي في احتجاجات سلمية واسعة عمت البلاد، قابلتها قوات الأمن بوحشية وعنف شديد. وانضم المثقفون وممثلو الكنائس للثورة ولعصيان مدني واضطرت الحكومة الشيوعية للتنحي عن قيادة البلاد وتم تعديل الدستور الذي كان يمنع قيام الأحزاب، وتم تسمية ما حدث بالثورة المخملية أو الثورة الناعمة.
يتضح لنا أن كلمة الربيع كوصف سياسي لحركة ما يحمل في طياته نمطا محدودا من التغيير ينتهي في غضون أشهر كطبيعة الفصول المناخية، وقد كان يمكن تفهم دوافع استخدام مصطلح الربيع العربي إذا كانت حركة الثورات العربية قد تعرضت لانتكاسات في الدول المختلفة وقت ظهور التسمية في النصف الثاني من عام 2011، غير أن الحقيقة هو أن ظهور المصطلح توافق مع عنفوان هذه الثورات، فقد كانت الجماهير تفرض إرادتها على الأنظمة الحاكمة من تعجيل للانتخابات وضغط لمحاسبة المسئولين السابقين. وكانت مظاهرات المدنيين السوريين لا تزال سلمية وصامدة في وجه قمع النظام.
إن استخدام هذا المصطلح، في الأوساط الصحفية والأكاديمية والدبلوماسية على الصعيد الدولي، يحمل دلالة سياسية سلبية لهذا الحراك الذي اسماه القائمون عليه ثورة. ولأنه ما سمي الإنسان إلا لنسيانه ولا القلب إلا أنه يتقلب، كذلك الثورات ما هي إلا غضب ومطالب تحمل نسقا فكريا وقيميا أما الربيع فهو طقس مناخي لا محالة زائل.
لهذا أعتقد أن مصطلح الربيع العربي يحمل نزعا للثورية عن هذا الحراك الهادر لمطالب أساسية مشروعة ويمثل موقفا سياسيا منها، فلفظ ثورة يحمل وصفا لغضب مصحوبا بقائمة مطالب شعبية، واعترافا ضمنيا بشرعية هذه المطالب، فضلا عن أفكار وقيم؛ كما كانت الثورة الفرنسية والبلشفية حاملة لقيم وأفكار محددة.
والثورة التي حملت شعار: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية، لها كل مقومات الثورة من حيث قدرتها على الحشد المتجاوز للطائفة والأيديولوجيا والإطاحة برؤساء وحكومات وقائمة مطالب مشروعة مبنية على حقوق أساسية، كما أن لها نسقا قيميا وفكريا يعبر عن تطور في الفكر الإنساني يبني على ما سبقه من جهود وامتد بريقه إلى خارج العالم العربي بغض النظر عن المشاكل التي تعترض المسار الثوري اليوم.
ووصف الثورة هنا لا يحمل معنى تاريخيا وسياسيا فقط ولكن دعائيا أيضا أم شعوب أخرى في العالم تملك محاسبة سياسييها على ما اقترفوه في حق الشعوب العربية التي أرادت الثورة والحرية. ويريد هؤلاء أن يفلتوا من المحاسبة على اعتبار أن الأمر مجرد غيوم تجتاح سماء ربيع إيذانا بتغيير محتوم للمناخ.