"أرض الملاحم"، "يوم الملحمة"، "الملحمة الكبرى"، "فسطاط المسلمين"، "الأعماق"، "
دابق"، "الروم"، "بنو الأصفر"... عبارات ومفردات يشيع استخدامها في خطاب اتجاهات إسلامية متعددة، داخل
سوريا وخارجها.
وتعكس تلك الاستخدامات مدى حضور النصوص الدينية في تأسيس رؤى تلك الاتجاهات والجماعات، وبناء مواقفها من الأحداث الجارية، وهي في غالب الأحيان تتصف بالوثوقية باعتبارها تستند إلى أحاديث نبوية، تبشر بأحداث ووقائع مستقبلية لا بد من وقوعها وتحققها بحسب تلك القراءات والتأويلات.
لكن كثيرا من تلك النصوص الثابتة الصحيحة التي يستندون إليها، لم تحدد زمانا لوقوع تلك الأحداث، وتحتمل أفهاما وتأويلات متعددة، فكيف تتجرأ اتجاهات إسلامية على إنزالها على أحداث ووقائع بعينها، مع أن في الأحاديث نفسها من القرائن والدلائل ما يدل على استبعاد إنزالها على تلك الوقائع؟
ورفض أستاذ الحديث النبوي وعلومه في جامعة مؤتة الأردنية، الدكتور محمد سعيد حوّى، ذلك المسلك، واصفا أصحابه بالاندفاع والتسرع، مع عدم تمكنهم ورسوخ أقدامهم في العلم الشرعي، وجرأتهم على تأويل النصوص النبوية بتأويلات خاطئة، وإنزالها على أحداث ووقائع لا تنطبق عليها تلك الأحاديث بأي حال أبدا.
وتساءل الدكتور حوّى قائلا: "ما علاقة دابق والأعماق الواردة في بعض الروايات بما يجري الآن؟ فرواية مسلم للحديث تقول (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق (موضعان قريبان من حلب).. فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ)، متسائلا: "فأين هم الروم الذين نزلوا بالأعماق ودابق؟ وأين هو الجيش الذي خرج من المدينة لقتالهم؟".
وأضاف حوّى في حديثه لـ"عربي21": "الرواية تتحدث عن أن الثلث المتبقي من جيش المسلمين بعد قتالهم للروم، (يفتتحون قسطنطينية) وتقول الرواية بالنص (فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون وذلك باطل)".
وتابع حوى سرد الرواية ومناقشة المستدلين بها قائلا: "الرواية قطعا لا تنطبق على زماننا، فهي تقول: (فإذا جاؤوا الشام خرج (أي الدجال) فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، فأمهم، فإذا رآه عدو الله، ذاب كما يذوب الماء في الملح)، فهذه أحداث من الواضح أنها تقع في سياق أمارات الساعة وأشراطها الكبرى". طبقا لحوى.
وجوابا عن سؤال حول "يوم الملحمة" المذكور في روايات حديثية، قال حوى إن "نص الرواية كما عند أبي داود في سننه إن (فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام) ظاهر في أنها ملحمة تقع في سياق أشراط الساعة الكبرى، وليست حادثا عابرا يقع هكذا".
واستدل حوى برواية أخرى عند أبي داود وغيره ونصها "عمران بيت المقدس خراب يَثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح قسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال"، موضحا أن "هذه الأحداث لا تكون إلا في آخر الزمان، ولا علاقة لها بزماننا، وقد فصلت ذلك في كتابي (مستقبل الصراع على الأرض المقدسة)".
الحالة السورية تمهد للملاحم الكبرى
في السياق ذاته، أوضح الداعية والباحث الشرعي، الدكتور جمال الباشا، أن التكلف في إسقاط أحاديث
الفتن والملاحم وإنزالها على واقع معين، مسلك قديم ومتجدد، خاصة في ادّعاء المهدوية عبر مراحل تاريخية مختلفة، وغير ذلك من التأويلات البعيدة والمتكلفة في إنزال تلك الأحاديث على وقائع محددة.
لكن الدكتور الباشا قرأ في الحالة السورية الراهنة أمرا مختلفا من حيث إرهاصاتها ومقدماتها، إذ ثمة إشارات رصدها وتابعها توحي بمجموعها أن ما ورد في أحاديث "الغوطة ودمشق ويوم الملحمة" قد اقترب زمانها.
ودلل الباشا على رؤيته تلك بأن النظام السوري بقبضته الأمنية الحديدية كان يلاحق الأنفاس، ويرصد كل الفعاليات والنشاطات، لكنه اليوم لا يملك السيطرة على أكثر من 18 بالمئة من الجغرافيا السورية، وفي الوقت نفسه تسارعت الأحداث، وتنامت الحركات الجهادية وتكاثرت، وهو ما يهيئ الأسباب ويمهد الأجواء لقيام تلك الملاحم الكبرى.
وردا على سؤال "عربي21" حول مدى قوة تلك الإشارات التي تدفعه لاعتبار أن ما يجري يمكن اعتباره بمثابة إرهاصات ومقدمات بين يدي تلك الملاحم الكبرى؛ قال الباشا إنه يرى أن "ثمة معطيات تقوي ذلك، وقرائن قوية تعززه، فمثلا حديث (يتبع الدجال سبعون ألفا من يهود أصبهان)، قبل خمسين سنة لم يكن في أصفهان عشرة ألاف يهودي، الآن تعدادهم ثمانين ألفا، وهذا معطى واقعي لا تكلف فيه"، بحسب الباشا.
وفي ظل سُنة التدافع بين الأمم، ألا يمكن اعتبار المعارك الجارية الآن في سوريا من الأحداث التي تندرج في دائرة الصراعات التاريخية كمثيلاتها من الأحداث السابقة؟ وفقا للدكتور الباشا، فإن ما يحدث في سوريا باستحضار ما ورد في الأحاديث (الغوطة ودمشق والملحمة) لم يحدث في ظروف وحالات مشابهة من قبل، ما يضفي عليه صفة استثنائية، يضاف إلى ذلك اجتماع الأمم المختلفة وتكالبها، باعتبارها منطقة مركزية، بالغة الحساسية، يعطيها خصوصية أخرى.
العقلية السننية تحاصر التأويلات الفاسدة
ويخطر سؤال: كيف يمكن تفسير تعلق اتجاهات إسلامية واسعة وعريضة بذلك اللون من القراءات التأويلية الدينية، التي تستسهل إنزال النصوص الدينية العارية عن تحديد زمان معين، وإسقاطها على وقائع بعينها، وتشكيل رؤاها ومواقفها بناء على تلك التأويلات والإسقاطات؟
وأجاب الباحث في الفكر السياسي والإسلامي، الدكتور أسامة عكنان، أن "الفكر الديني الإسلامي خضع لمؤثرات كثيرة عبر مراحله التاريخية المتتابعة، وأن كثيرا من الأحاديث المروية في فضائل أناس وأزمنة وأمكنة، هي لمن يدقق في سياقاتها وحيثياتها جاءت لخدمة فئات معينة، وأزمنة وأمكنة دون غيرها".
وأوضح عكنان لـ"عربي21" أن "للصراعات السياسية التاريخية تأثيرات قوية في وضع الأحاديث واختلاق المرويات، وأن تكاثرها دفع العقل المسلم للتعلق دائما بالأسباب الغيبية لإحداث التغيير المنشود، والإصلاح المرجو، ولو عدنا إلى النص القرآني بتأويله العقلاني لرأينا أنه يرسم مسارا منضبطا للتفكير العقلاني، والعمل المنتج المتولد من رحم العقلية السننية، والمتقيد بالقوانين والنواميس الكونية".
وتساءل عكنان: "أليس التعلق بتلك المبشرات يدخل المسلم في حالة مقيتة من الهمود واللافاعلية انتظارا لما سيقذفه عالم الغيب كي تتحقق تلك المبشرات الواردة في الروايات؟"، داعيا إلى فهم الدين فهما عقلانيا موضوعيا، بالاستناد إلى نصوص القرآن الكريم، بعيدا عن التفسيرات والتأويلات التراثية السائدة والحاكمة.
يشار في هذا السياق إلى أن العلماء عادة ما يتحرجون ويتحوطون من إنزال أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الواقع، ولا يجزمون بذلك، ويوجهون المسلمين إلى الفهم الصحيح، ويحفزونهم إلى العمل البشري المنتج بعيدا عن التواكل والتكاسل وانطفاء الفاعلية.
الداعية السعودي، عبد الرحمن السحيم، في جواب عن سؤال مشابه قال: "العلماء الكبار كانوا يتحوطون ولا يقولون عن واقع معين أنه هو المقصود بشيء من الأحاديث النبوية التي فيها إخبار عن المستقبل، كما لا نستطيع الجزم بأن ما يحدث في سوريا مثلا هو مقدمة الملاحم، ولا أنه هو سببها"..