ليس من قبيل الصدفة أن تكون أكبر آية في كتاب الله هي آية كتابة الديون وتوثيقها بالشهود في تأكيد واضح على أن الأصل في معاملاتنا المالية والحياتية أن تكون قائمة على التوثيق والعلانية وليس على الاستيثاق والتخفي.
وكما أرادت الشريعة السمحاء لعقد العلاقة الزوجية أن يكون واضحا شفافا محروسا بشهادة الشهود وبإعلان العلاقة للعامة بعيداً عن المواعدة السرية، كان من الطبيعي أن تنعكس هذه
الشفافية على سائر معاملاتنا المالية والحياتية فنحرص على توثيقها وعلانتيها، وقابليتها للمراقبة والمساءلة فما يتم في الخفاء وبعيداً عن الأعين يتسلل إليه الفساد ويتحول إلى مرتع خصب للسرقة والاختلاسات والمعاملات غير المشروعة وإهدار جميع الحقوق..
وتزداد الحاجة إلى الشفافية كلما ارتبطت بحقوق أكبر عدد من الناس، وتبلغ الذروة عندما تتعلق بحقوق ومعاملات شعب بكامله. فالشفافية وآليات تجسيدها هي وسائل تحقيق معظم القيم والمبادئ الإنسانية والدينية السامية كالعدالة والصدق والإخلاص والأمانة.
ومع تعقد المعاملات الحياتية لم يعد في الإمكان تحقيق جميع هذه المبادئ مع مبدأ المساءلة والتقييم والمراقبة دون تحقيق الشفافية.
فقد طورت الفطرة البشرية بعد صراعها الطويل وتجاربها المريرة مع الفساد والعبث بالحقوق العامة والخاصة، أدوات وآليات لتحقيق الشفافية التي تسمح بمراقبة العمل وتقييم الأداء ومعرفة التفاصيل وتصنع الثقة في النفوس فلا يتسرب إليها الارتياب والشكوك فيندفع الجميع إلى القيام بواجباتهم وتطوير أعمالهم وهم يعرفون جيدا أن جهودهم لن تذهب هدرا وأن حقوقهم مصانة..
وإذا كان الفساد المالي والإداري من أكبر المنكرات التي تتفشى في مجتمعاتنا، فإن السبيل الأمثل إلى إنكار هذا المنكر؛ هو ترسيخ آليات الشفافية لمحاربة الفساد وتحديد جوانبه والكشف عن مواطن الخلل والقصور في الأداء، لتكون الصورة بينة أمام جهات الاختصاص المعنية بمحاكمة الفاسدين أو تقييم العمل واقتراح آليات التطوير ..
فالشفافية في عالم اليوم لم تعد هبة أو منحة تتصدق بها الحكومات على الجماهير بل حق أصيل بدونه تختل شرعية تمثيل الحكومة للشعب وتدخل الشكوك والارتيابات في أداء الحكومة، ويستشري الفساد ويضعف الإنتاج أو يجمد ويفقد القدرة على التطوير ومواكبة التغيرات.
ونظراً لأهمية الشفافية أصبحت تتصدر المعايير العالمية للحكم الرشيد والنظام الصالح وتقاس على أساسها مدى نزاهة الأنظمة وابتعادها عن الفساد وتجسيدها للعدالة وتحقيق الفصل بين السلطات وتعزيز سلطة القضاء واستقلاليته..
وعندما تغيب إيجابيات الشفافية والحكم الرشيد تحضر سلبيات الحكم الاستبدادي ونظام الحاكم الفرد الاستئثاري الذي يعمل على تغييب الشفافية، ويتحول غياب الشفافية إلى أداة من أدوات الاستبداد في العبث بالمال العام وتعطيل أدوات المساءلة وإضعاف سلطة القضاء واستقلاليته واستخدام الأجهزة الأمنية في محاربة دعاة الاصلاح والتطوير... ولكل ذلك كانت الشفافية هي الخصم اللدود للفساد والاستبداد، وكان واجب الدعوة إلى تحقيق الشفافية في رأس أولويات دعاة الإصلاح في أي مجتمع من المجتمعات...