تعود جذور فكرة
الإمامية السياسية والاجتماعية والثقافية في
اليمن إلى قبل ما يزيد على ألف ومائة سنة، وذلك حين قدم الإمام الهادي يحيى بن الحسين الرسّي (ت:298هـ) إلى اليمن من جبل الرس في المدينة المنورة، وذلك في سنة 280هـ بطلب من بعض اليمنيين أتباع المذهب الزيدي لحل نزاعات بينهم وتوحيد صفوف
الزيدية التي غلب عليها التمزق والتناحر، فقدم مرتين الأولى في 280هـ، والأخرى في 282هـ، واستقر في صعدة، بعد أن أخذ على من دعاه العهد باتباع أمره، والسمع والطاعة له.
لكنه ما فتئ أن أخذ في الاختلاف المتزايد مع اجتهادات الإمام المؤسس للمذهب الزيدي زيد بن علي (ت:122هـ)، حتى يكاد أن يكون ثمة نسخة أخرى لمذهب آخر يرفع عنوان الزيدية، على حين يتضمن اجتهادا يضاهي مذهب الإمام زيد، خاصة حين نقف على حقيقة أن الإمام زيد لم يصل أرض اليمن بنفسه، ولم تطأ قدماه جغرافيتها قط، بل يمكن القول أن مذهبه الفعلي لم يُعرف في اليمن، بشكل واسع طيلة تاريخ المذهب الهادوي في اليمن الممتد لأكثر من ألف ومئة سنة، وإنما انتشر المذهب الهادوي على نطاق واسع، ولكنه عادة ما يقرن ذاته أو يقرنه أتباعه بالإمام زيد فيقال (الهادوي الزيدي) أو (الهادوية الزيدية)، على حين أن الحقيقة هي تلك.
وبازدياد التباين الواضح بين نسق الإمام زيد الفكري والفقهي -بما فيه الأصول السياسية والاجتماعية والثقافية- عن الإمام الهادي؛ يمكن تقرير أن مذهب الهادوي غدا ناسخا فعليا بالجملة لمذهب زيد، حيث أسس الهادي لمنظومة أفكار ومسالك مختلفة كليّا في تلك الجوانب عن إرث زيد ومنهجه وفكره، ما قاد إلى إرث سياسي واجتماعي وثقافي لما يمكن وصفه بـ(الملكية الإمامية) في اليمن.
ومع التأكيد على أن التوصيف السابق أو اللاحق لا يؤذن بشرعنة الصراع الدائر في اليمن اليوم، أو في بعض البؤر الساخنة في غيرها من مناطق العالم العربي والإسلامي، وتطبيع القول بأنه (صراع مذهبي أو طائفي)؛ فإنه لا مناص من القول بأن ذلك - في واقع الأمر- ليس بأكثر من دثار لتحقيق أهداف سياسية عامة، ولأنه ليس أبلغ من المستند (الديني) لتحقيق ذلك، فكان رفع شعار المذهب أو الطائفة أو نحو ذلك، على أن الحقيقة هي (التسييس) للمذهب أو الطائفة أكثر منه إيمانا بقناعاتها أو اتجاهاتها مجرّدة عن ذلك البُعد الكلي.
وبالنظر في حالة الصراع السياسي المسلّح المحتدم اليوم في اليمن ممن يحلو لهم وصف أنفسهم بـ(أنصار الله) أي الحوثيين، ودعاواهم المتكررة بأنهم في ذلك أتباع للمذهب الزيدي الهادوي؛ لا يعدو الباحث في هذا المجال دائرة الصواب إذا قرّر أن انتسابهم إلى الإمام زيد وفكره ابتداء أبعد ما يكون عن منظور زيد السياسي والاجتماعي والثقافي الفعلي لجملة القضايا ذات الصلة، وفي مقدّمتها نظرية الحكم.
وبوسع كاتب هذه السطور إيجاز الإرث السياسي والاجتماعي والثقافي للملكية الإمامية في اليمن في التالي:
أولاً: الإرث السياسي:
في ضوء التمهيد السابق، فإن الإرث السياسي للملكية الإمامية في اليمن ينبثق من دعوى تولاها بيقين الإمام الهادي يحيى بن الحسين، ممثلة في اشتراط أن يكون الخليفة أو الحاكم الأعلى منحدرا من سلالة البطنين، أي الحسن والحسين من نسل فاطمة الزهراء –رضي الله عنهم جميعا- بوصف ذلك شرطا أساسيا ثابتا لا محيص عنه ولا مكان للاجتهاد فيه، إلى جانب شروط أخرى كالعلم والاجتهاد، والخروج بالدعوة بالسيف لذلك، وقتال كل من يخالفه، حتى لو كان أقرب الناس إليه.
وثمة اشتراطات أخرى، لكن هذه أبرزها، حيث أسست لنظرية الاصطفاء أو (الحق الإلهي) في الحكم، ومن ثم الصراع الدموي الممتد عبر القرون، بحيث لا يمكن لأي كان أن ينازع في شرط الانتساب السلالي إلى البطنين ابتداء، أيّا ما كانت مؤهلاته العلمية أو الخلقية أو النفسية أو خبراته السياسية ومهاراته العملية في هذا المجال، أو سوى ذلك من السمات، لهذا لم يعد مستغربا أن تجد تاريخ اليمن طيلة ما يبلغ نحوا من ألف ومئة سنة فصولا مأساوية من مشاهد العنف والدماء في إطار المجتمع ذاته، بل بين الداعي للحكم أو الخلافة وابنه أو العكس، دون أن تسجل واقعة عسكرية واحدة ضد عدو غير مسلم خارجي محتل– مثلا- ، أو مهدّد للمجتمع أو متربص به. ولك أن تسجل – على سبيل المثال- أن الإمام الهادي غزا القرامطة اليمنيين وحدهم إلى عقر دورهم نحوا من سبعين ونيف غزوة في غضون مقدمه إلى اليمن من 282-298هـ -وهو تاريخ وفاته- .
وحين تقارن بين ما يعتمل على الساحة اليوم من حرب مستعرة شمال اليمن وجنوبها وشرقها وغربها، رأس حربتها
الحوثيون الساعون إلى فرض سيطرتهم بالقوة والسلاح، أيّا كانت التداعيات أو الثمن الباهظ من النفوس والأموال والبنية التحتية للبلاد؛ فإنك تجد أن ذلك هو المسار (الطبيعي) المتناغم عبر التاريخ للملكية الإمامية، أيّا اختلفت عناوينها بين الأمس واليوم، خاصة بعد أن أعلن الحوثيون عن تلك المضامين صراحة، ولا سيما (الاصطفاء الإلهي) فيما عُرف بـ(الوثيقة الفكرية والثقافية) التي صدرت في شباط/ فبراير 2012م.
ثانيا: الإرث الاجتماعي:
وتأسيسا على الإرث السياسي للملكية الإمامية في اليمن، وقع توسع في أنماط العلاقات البينية في نسيج المجتمع، تجاوز به المتذهبة الهادويون تعاليم الهادي ذاته في جانب تحريم المصاهرة من غير الهاشمي –مثلا- كما غيره من المذاهب (السُنِّية) التي ذهبت إلى ذلك الشرط في المصاهرة، ولكن من غير لوازم ادّعاء الامتياز أو التفوق على الآخرين، على خلاف الأمر عند أتباع الإمامية الملكية إذ حدث من التخندق والانزواء للعائلات التي تدّعي – عن حق أو خلافه- انتسابها إلى السلالة الهاشمية (البطنين)، بحيث عملت على تشريح المجتمع إلى طبقات عليا، وتنحصر في شريحة (الهاشميين) وامتيازاتهم في الحكم والعلم والنفوذ الاجتماعي، وبين طبقات وسطى تشمل القضاة والمشايخ والقبائل ونحوهم، وطبقات دنيا تسمّى (بني الخمس)، وهو مصطلح احتقاري يشير إلى النقص في النسب، والدونية في المهن، ويضم شريحة واسعة من أبناء المجتمع من ذوي المهن الدونية – في نظرهم- كالحلاقة والجزارة والعمل في بساتين الكرّاث أو بيعها، والعمل في محلات المقاهي والمطاعم ونحوها، ما انعكس ذلك على علاقة المصاهرة والتزاوج، بين طبقة الهاشميين والطبقة الثانية (الوسطى)، ناهيك عن طبقة (بني الخمس) أو الطبقة الدونية، فصار المنع هو القانون المتبع، والقاعدة الأساس.
ومع توافر أرضية فقهية لذلك الاتجاه حاصلها اشتراط الكفاءة النسبية اشتراط صحة وفرض لا اشتراط كمال وفضل، أي لدواعي حسن العشرة والتوافق النفسي والبيئي والعائلي أكثر في الطباع والعلاقات ذات الصلة بالعرف والعادات ونحوها، فتكون الملكية الإمامية قد أوهمت بعض من يتهمها بالعنصرية والاستئثار ببعض الامتيازات الاجتماعية بعد السياسية، بأن ذلك ليس شأنا مذهبيا هادويا فحسب، بل هو اتجاه المذهب الآخر السائد أكثر في اليمن، وهو المذهب الشافعي، على حين أن عقدة التفوق في الحكم منتفية من الأساس، لدى الشافعية أو سواها، ولكن لدواعي التوافق النفسي والاجتماعي والعائلي ونحو ذلك، على خلاف الدافع لدى أتباع الإمامية الملكية في اليمن، وذلك في ضوء المسار الكلي، ولاسيما السياسي الناطق بالاصطفاء لسلالة الهاشميين الحسنيين والحسينيين على من سواهم.
وإذا كان قد حدث قدر من الحراك الاجتماعي في ذلك، فإنه باتجاه التنازل من قبل الهاشمي (العدناني) ليقبل أن يتزوج من غير سلالته من القبائل (القحطانية)، لكن دون العكس، دون أن يؤثر في سلامة هذا الاستنتاج بعض الحالات الخاصة النادرة التي تؤكّد القاعدة ولا تنقضها. على أن من الإنصاف التأكيد في هذا السياق أن ذلك النمط في العلاقات، أعني علاقة المصاهرة والنسب، قد كان توسعا منبثقا من نظرية (الاصطفاء الإلهي) السياسية، التي أسس لها الإمام الهادي، دون أن يؤذن بأنه اجتهاد منصوص عليه مباشرة في تراثه المطبوع أو المخطوط، علاوة على أن ثمة روايات تاريخية، تشير إلى أن الرجل كان زوّج بعض بناته من طبريين (غير هاشميين).
الإرث الثقافي:
أما الإرث الثقافي للملكية الإمامية في اليمن، فحسب الكاتب الإشارة هنا إلى أحد الأسباب الجوهرية إلى ثورتي 48م و62م، اللتين قامتا ضد سياسة الإمامة الملكية في التمييز بين أبناء الشعب من حيث الحق في الحصول على التعليم للجميع، إذ كانت (النخبة) الحاكمة من آل حميد الدين خاصة، ومن بعض الأسر (الشريفة) على نحو أعم هي التي تحصل على ذلك الامتياز وحدها، ثم يؤتى بأفراد من عائلات مختلفة، ولا سيما تلك العائلات التي صارت تُعرف اجتماعيا بـ(القضاة) لتحصل على قدر من ذلك، بغية إضفاء المشروعية على ذلك التمييز، وكي لا يقال إن العائلة الحاكمة ومن يدور في فلكها من السلالة ذاتها تحتكر المعرفة أو العلم أو الثقافة وحدها، على أن تلك هي الحقيقة المرة الفاقعة.
وإذا تساءل المرء ما السر في ذلك الحرص على التميز بالعلم للعائلة الحاكمة ومن يدور في فلكها؟ فإن الجواب يأتي من حجم الامتيازات التي تحصل عليها، ولا سيما في مفاصل الدولة، خاصة منصب القضاء، بوصفها هي وحدها من تعلمت، ومن ثم فهي الأحق بذلك.
وحين التأمل في مجريات الصراع الدائر اليوم بين أتباع الإمامية الملكية وعموم الشعب اليمني في مختلف المحافظات والمحاور، تجد واحدا من دوافع ذلك غير المعلنة يعود إلى اعتقاد (الإماميين) الجُدد غير المعلن بامتلاكهم (عقدة التفوق) في المعرفة والعلم على كل من عداهم، ولذلك، فليس ثمة حق لغيرهم في منازعتهم الحكم الذي يشترط في من أراده، علاوة على النسب والخروج بالسيف، توافر العلم (الشرعي) الذي لا يتحقق في أحد غيرهم – وفق مواصفاتهم-.
إقرأ أيضا:
"عربي21" تفتح ملف اليمن: من ثورة سبتمبر 62 إلى ثورة 2011