الحل الوحيد للسوريين هو أن "يقاتلوا
الإرهاب الدولي بلا هوادة". ومع هذا "التبصُّر" الروسي بوقائع سورية وشعبها المعذّب بالقتل والغازات السامة والبراميل المتفجِّرة والتشرُّد، تتبرّع إيران للعرب المعذّبين في شرق أوسط الخراب والعنف والتنكيل، بأنها وحدها قادرة بجيشها وحرسها "الثوري" على إنقاذهم... بسحق "الإرهابيين"!
مَنْ يقف تحت مبنى الـ"كي جي بي" في موسكو، قد يمكنه التكهُّن بحجم الأسرار التي يخفيها الخرّيج النجيب للاستخبارات، الرئيس فلاديمير بوتين، وحجم الأهداف التي يسعى إليها، منذ قرّر إرسال طائرات مقاتلة وعتاد حديث و "دقيق" إلى ساحل اللاذقية. وبعد نحو أربع سنوات ونصف سنة على كارثة سورية، ما زالت واشنطن تختبر سذاجتنا بادعائها هدفا نبيلا لدى بوتين، هو مجرد حماية قاعدة روسية. وما دام الأمر دفاعا مشروعا عن النفس، لماذا افتراض سوء النية لدى الكرملين، فيما هو يسعى إلى توحيد جميع السوريين، وجمع القاتل والقتيل في خندق واحد ضد إرهاب "داعش"؟
الأكيد أن سورية ومأساتها في بداية مرحلة جديدة، دشّنها الجسر الجوي الروسي الذي يتكئ عليه النظام في دمشق ليُظهِر أنه ما زال قادرا على الصمود، وعلى محاربة "داعش"، وكل التنظيمات المعارضة معه. فلدى النظام الإرهاب واحد، والروس لم يشرحوا بعد كيف ستُميّز طائراتهم بين مَنْ هو "داعشي" ومَنْ يقاتل النظام! ظاهر المعادلة ساذج، إذ ليس متوقّعا أن يعلن الكرملين عزمه على سحق كل مَنْ يقاتل نظام الرئيس بشار الأسد. وما حصل خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، يُظهِر الأميركيين في موقع المندهش من "المفاجأة" الروسية، لكنه لا يبدّد في كل الأحوال شكوكا في توافق بين موسكو وواشنطن على توزيع الأدوار في فرض تسوية ما تجمّد النزاع في سورية.
لا يتعارض التفاؤل الروسي بالمرونة الأميركية حيال مصير الأسد وموعد رحيله ودوره في الحل (تضاف إليها "المرونة" الفرنسية)، مع تصعيد على جبهة الترسانة النووية الأميركية وتهديد موسكو بِرَدّ. وتجربة تقاطع المصالح الأميركية والروسية في مفاوضات الملف النووي الإيراني، دليل حاسم على الثابت- المتحوّل في لعبة الأمم.
وإذا كان الوقت ما زال مبكرا للتكهُّن بما وراء التفاؤل الروسي المسلّح بقاذفات متطورة ودبابات في سورية، فالأمر ذاته ينطبق أيضا على الإجحاف في تيئيس مقاتلي المعارضة السورية، وشطب أي أمل بتغيير جدي لطبيعة النظام في دمشق... فقط لأن الكرملين لا يعترف إلا بمعارضة "سليمة"، ليس في صفوفها "الائتلاف الوطني السوري"، ولا "حركة أحرار الشام" حتما، ولا يمكنه أن يرى الأسد خارج الحكم.
ولكن، أين حصة واشنطن؟ وحصة حليفها الإسرائيلي، والحليف الإيراني للنظام السوري؟
أول ما بادر إليه النظام هو تكثيف غاراته على مواقع "داعش"، وإعلانه ثمارا للسلاح الروسي المتطوّر الذي بات في مخازنه. هرول وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى أوروبا، مستاء من "مبادرة" بوتين المفاجئة، وهرول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى موسكو. الأول بدا كمن عبّد الطريق للمرونة التي لا تجعل رحيل الأسد أولوية، والثاني سعى إلى ضمانات باستعادة الهدوء السوري على هضبة الجولان الذي استقر لأربعين سنة ونيف.
الحرص الأميركي على عدم الاشتباك مع الروس في الأجواء السورية، استنسخه الإسرائيلي، وأما الإيراني فيشكو علنا من أن بوتين يسحب من يديه إدارة الصراع في سورية، ومع "التكفيريين". هروَلَ أيضا ليحجز مقعدا في قطار تسوية، سيكون الكرملين عرّابها الفعلي، بعدما أتاح للرئيس باراك أوباما أن يكون عرّاب الاتفاق النووي بين إيران والغرب.
لذلك، تُسارع طهران إلى تضخيم عضلات جيشها و "الحرس الثوري" ليصبحا القوة "الوحيدة" القادرة على منازلة الإرهابيين ودحرهم، ولتصبح هي "الأمل الوحيد" بعد يومين على إنكارها وجود أي قوة إيرانية أو "خبراء" لـ "الحرس" على الأراضي السورية.
والأرجح أن افتراض نهاية قريبة للصراع الذي أطلق طوفان اللاجئين على أوروبا، وجعل وحدتها على المحك، هو أقرب إلى الأمنيات من الوقائع. الأرجح أن سيد الكرملين لا يريد للأسد مصير القذافي ولا زين العابدين بن علي، لكنه قادر على طيّ الصفحة حين تكتمل تفاهمات يريدها مع أوباما قبل مغادرة الأخير البيت الأبيض.
وإن بدا أنّ بوتين رد الصاع "الأوكراني" (العقوبات الغربية) صاعين وأكثر في سورية، فالمؤلم في كل الأحوال أن يُسفر تجميد الصراع في شرق المتوسط عن شطب ثمن باهظ دفعه السوريون من أجل وداع الذُّل.
(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)