في خطوة مفاجئة، قام السيد محمود عباس، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير
الفلسطينية (م. ت. ف)، ورئيس سلطة الحكم الذاتي، والمؤيدون له، بالاستقالة من اللجنة التنفيذية، مستهدفا دعوة المجلس الوطني الفلسطيني للانعقاد لانتخاب لجنة تنفيذية جديدة. لم يجتمع المجلس الوطني منذ منتصف التسعينات، وكان يفترض أن يكون انعقاده مؤشرا على تحول كبير في استراتيجية النضال الفلسطيني أو على انطلاق عملية إصلاح جوهرية في بنية المنظمة.
ولكن، وبالرغم من شائعات عزم عباس على اعتزال العمل السياسي، فالأرجح أن الرئيس الفلسطيني يسعى إلى إحكام سيطرته على اللجنة التنفيذية. أما لماذا يريد الرئيس إحكام هذه السيطرة، التي لا تواجه أي تحد ملموس في قيادة م. ت. ف، فما يجري تداوله أن عباس يريد التخلص مما تبقى من معارضيه في اللجنة التنفيذية، ووضع المنظمة على خط صدام مباشر مع حماس.
المدهش في كل هذا الحراك، أن الرئيس يبدو غائبا كلية عن مجريات الوضع الفلسطيني، وأن همومه أخذت في الانحسار تدريجيا من التقدم بالقضية الوطنية إلى الأمام، سواء بالتفاوض أو النضال الشعبي، إلى تأمين مواقعه الرئاسية باستخدام مناورات بيروقراطية بحتة في هيئات المنظمة القيادية.
أزمة القيادة الوطنية الفلسطينية هي، في الحقيقة، الوجه الآخر لأزمة حركة فتح، القوة التي قادت النضال الفلسطيني وم. ت. ف منذ نهاية الستينات. وليس ثمة مؤشر أكثر وضوحا على الانحدار الحثيث لفتح وفقدانها البوصلة من حالة الغياب التي تحيط بقيادات المنظمة وسلطة الحكم الذاتي، التي هي قيادات فتح أيضا، وفي مقدمتها الرئيس ذاته. المعضلة، التي ليس ثمة بوادر على حل قريب لها، أن الموقع القيادي الذي أفرغته فتح منذ سنوات لم تملأه قوة بديلة حتى الآن، ولا حتى حركة حماس، التي تحتل موقعا نضاليا وسياسيا يفوق ذلك التي تحتله فتح بأِشواط طويلة.
يمثل صعود فتح وانحطاطها واحدة من أبرز سرديات النضال الفلسطيني طوال القرن الماضي. فبغض النظر عن الآراء المختلفة حول بدايات فتح المبكرة، فليس ثمة شك أن الحركة التي تأسست على أيدي حفنة صغيرة من أبناء إنتلجنسيا المهجر الفلسطيني قضت سنواتها الأولى على الهامش البعيد للساحة السياسية الفلسطينية والعربية.
في نهاية الخمسينات وحتى هزيمة 1967، سيطر الخطاب العربي القومي بنسخته الناصرية على الفضاء العربي بأسره، بما في ذلك فضاء الشتات الفلسطيني. ولكن المجموعة الأولى من مؤسسي فتح لم تتردد في مخالفة الأطروحة الناصرية والتقدم بأطروحة مخالفة. عندما كان القوميون العرب، وفي مقدمتهم الناصريون، يقولون إن الوحدة العربية شرط تحرير فلسطين، قال الفتحاويون الأوائل أن النضال من أجل فلسطين يمثل النهج الأقصر لنهوض العرب ووحدتهم.
وعندما عمل القوميون على تذويب الهوية الفلسطينية في هوية قومية عربية متصورة، دعا الفتحاويون إلى إعادة بناء الهوية الوطنية الفلسطينية. وفي مواجهة الصراعات الأيديولوجية التي مزقت الإنتلجنسيا الفلسطينية المتنامية، قال الفتحاويون أن الفلسطينيين يعيشون مرحلة تحرر وطني، برنامجها الوحيد لابد أن يكون النضال من أجل تحرير فلسطين.
ألحقت فتح الأقوال بالأفعال عندما بدأت عملا مسلحا متواضعا في مطلع 1965؛ ولكن هزيمة يونيو/ حزيران 1967 كانت فرصة فتح الرئيسية لتوكيد مصداقية خطها. وبالرغم من المبالغات التي أحاطت بها آلة فتح الإعلامية نشاطاتها ضد الاحتلال بعد الهزيمة، فمن المؤكد أن المقاومة الفلسطينية المسلحة، قبل الكرامة وبعدها، لعبت دورا كبيرا في انقشاع مناخ الهزيمة ثقيل الوطأة الذي أحاط بالمجال العربي. وإلى جانب ذلك، أعادت مجالات النضال الوطني المتعددة، بما ذلك المقاومة المسلحة، بناء الهوية الوطنية التي تعرضت للتشظي الجغرافي والسياسي ـ الاجتماعي بعد نكبة 1948.
خلال الشهور القليلة التي تلت هزيمة 1967، أصبحت فتح، التي كانت هدفا لمطاردة الأجهزة الأمنية العربية، حاجة حيوية للنظام العربي الرسمي، من مصر وسوريا إلى السعودية والجزائر. وبدعم عربي رسمي لا يخفى، وترحيب من أغلبية الفلسطينيين، هيمنت فتح على قيادة
منظمة التحرير الفلسطينية وهيئاتها المختلفة، وأجرت تعديلات أساسية على ميثاقها الوطني. بصورة من الصور، وسواء برؤيتها السياسية أو قيادتها التنظيمية، وفرت فتح إطار الإجماع الفلسطيني.
بيد أن هذا الإجماع سرعان ما أخذ في الانكسار، بداية من برنامج النقاط العشر الذي تبنته م. ت. ف في منتصف السبعينات. ليس هذا، بالطبع مجال التفصيل في السياق العربي والدولي الذي دفع فتح إلى طرح فكرة السلطة الوطنية، التي ستتطور بعد ذلك إلى مشروع الدولة، على أية أرض تتحرر من فلسطين.
ولكن المدهش في ذلك المنعطف الهام من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية كان حجم التراجع الذي قامت به قيادة فتح وم. ت. ف أمام متغيرات وضغوط مرحلية. من مشروع السلطة الوطنية، سارت قيادة فتح والمنظمة إلى خضم الحرب الأهلية اللبنانية، إلى حرب 1982 والخروج من لبنان، وصولا إلى ما بعد حرب الخليج في 1990 ـ 1991 وانطلاق مفاوضات أوسلو السرية، ومن ثم توقيع اتفاق أوسلو في 1993. ربما يقال بأن اتفاق أوسلو كان النتيجة الطبيعية لطرح مشروع السلطة الوطنية في منتصف السبعينات. وهذا صحيح، بالطبع.
ولكن الأهم أن اتفاق أوسلو وإقامة سلطة الحكم الذاتي مثلا نقلة بعيدة، وبعيدة جدا، في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، مهما كانت طبيعة المسار في العقدين السابقين. فسواء أدركت قيادة المنظمة حينها أو لم تدرك، حولت سلطة الحكم الذاتي قطاعا كبيرا من مناضلي الحركة الوطنية إلى بيروقراطية أمنية، وضعت جزءا من الفلسطينيين في تحالف غير مكتوب (ومكتوب أحيانا) مع الاحتلال الإسرائيلي، وألقت بذور حرب أهلية فلسطينية في الضفة والقطاع، لم تزل مستعرة إلى اليوم.
بانهيار الإجماع الوطني، وتراجع حركة فتح، وإلى جانبها معظم حلفائها في منظمة التحرير، عن خيار المواجهة مع والنضال ضد المشروع الصهيوني، أصبحت القوى الإسلامية الفلسطينية طليعة حركة التحرر الوطني الفلسطينية. مثلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى بداية صعود الإسلاميين الفلسطينيين. ولكن موازين القوى في الساحة السياسية الفلسطينية لم تمل لصالح التيار الإسلامي إلا في خضم الانتفاضة الثانية وما بعدها، عندما أصبح حجم الافتراق بين موقعي وخيارات فتح وحلفائها، من جهة، والإسلاميين، من جهة أخرى، واضحا.
وبالرغم من سياسة القمع والمطاردة التي مارستها أجهزة سلطة الحكم الذاتي ضد الإسلاميين خلال التسعينات، عزز الأخيرون من مواقعهم الشعبية ومن أدوات نضالهم. وسرعان ما برزت حماس، بصورة خاصة، باعتبارها القوة النضالية والسياسية الفلسطينية الأكبر والأهم على الإطلاق، سواء في الضفة والقطاع أو في المهجر.
بيد أن قوة سياسية واحدة لم تستطع بعد توفير الإطار المرجعي الإجماعي للنضال الفلسطيني، ليس من حيث الأهداف والبرامج وحسب، ولكن ومن حيث القدرة على استيعاب وجلب تعاطف أغلبية قطاعات المجتمع الفلسطيني، أيضا. أحد أسباب هذا الفراغ، بالطبع، يعود إلى الخلفية الإسلامية الإيديولوجية لحركة حماس؛ ويعود السبب الآخر إلى أن الموقع القيادي للنضال الفلسطيني يتطلب توفر شروط فلسطينية وعربية معا، وليس فلسطينية فقط.
المشكلة، أن استمرار حالة الانقسام الفلسطينية، وتأخر حسم الموقع القيادي للنضال الوطني، سيسمح بتكرار مثل مهزلة دعوة المجلس الوطني الفلسطيني للانعقاد السريع، ليس لسبب إلا لإحكام عباس قبضته على قيادة المنظمة، فيما القضية الوطنية تسير من سيئ إلى أسوأ.