يتسم التيار الإسلامي في
فلسطين، وتحديدا حركتي حماس والجهاد الإسلامي، بالطابع الوطني والممارسة النضالية المسلحة ضد العدو الأساسي للأمة وعلى أرض القضية المركزية، إلى جانب التدين الشعبي الذي يحول دون تصنيفهم كهويات خاصة متميزة عن عموم المجتمع، فهم انبثاق مجتمعي، لا من جهة النسب الطبيعي إلى الأرض والشعب فحسب، ولكن أيضا من جهة سردياتهم، وأفكارهم، وتصوراتهم، وممارساتهم، المشتقة من الثقافة المجتمعية السائدة ذات الروافد الدينية الإسلامية، ولن يغير من هذه الحقيقة ما لدى الإسلاميين من حمولات سياسية وإيديولوجية، وبالرغم من ذلك فإن ثمة نظرة إقصائية تعتبر مجرد التشكل السياسي للإسلاميين الفلسطينيين عملية طائفية إقصائية تؤدي بالضرورة إلى انقسام مجتمعي أو إلى نمط ما من العنف القائم على أساس الإكراه الديني، الأمر الذي يعني في النتيجة أنه لا فرق بين حماس و"داعش" إلا في الدرجات، وأن مآل جميع الإسلاميين واحد!
تتميز هذه النظرة الإقصائية، والتي لا تنم إلا عن فاشية مكشوفة، باختزالية تنفي التطور والتحول في مسار الإسلاميين، كما تنفي تنوعهم الداخلي. أي تنميطهم واعتبارهم شيئا واحدا، وذلك صدورا عن أرضية إيديولوجية ينبني عليها خلل منهجي فاضح، يقوم على تعميم الجزئيات أو الحوادث الفردية، (وذلك بسبب نفي التنوع الداخلي)، أو على قراءة نصية ثقافوية (وذلك بسبب نفي التطور والتحول في مسار الإسلاميين)، وهذه القراءة النصية كأي قراءة اختزالية ناهضة على تصورات ناجزة ذات طابع استشراقي تجنح إلى الانتقاء الواعي، ومثال ذلك أن تُقرأ حماس بواسطة ميثاقها بمعزل عن بقية أدبياتها، أو بمعزل عن الممارسة العملية المتجاوزة في بعض سياساتها للميثاق مبكرا، أو بمعزل عن التنوع والجدل الداخلي بشأن الميثاق، وأيضا بمعزل عن محاولة فهم الميثاق في سياقه التاريخي وظروفه الآنية وانبثاقه بشكل ما عن ثقافة مجتمعية سائدة.
فلم تكن ردة الفعل على إشاعة تغيير مديرية التعليم في رفح بقطاع غزة لاسم إحدى المدارس من "غسان كنفاني" إلى "مرمرة" إلا مجرد مثال على تقنية تعميم الجزئيات التي تستخدمها الفاشية المناهضة للإسلاميين، وهذا بصرف النظر عن صحة الحادثة أو رواية المديرية التي نفت صحة الإشاعة، وقدمت توضيحا يبين أن "غسان كنفاني" ما يزال اسما للمدرسة إلى جانب مدرسة أخرى توسعت عنها ستحمل اسم "مرمرة"، إذ إن تقنية تعميم الجزئيات التي تستخدم عموما مع الإسلاميين، وتحديدا مع حماس، تعيد تصوير الحادث وكأنه معبر عن رؤية جماعية تستغرق كل الأفراد بلا استثناء، وسلوك ناجم عن مثابرة تنظيمية واعية تهدف إلى استبدال الرموز الإسلامية بأخرى فلسطينية، في سياق عملية تعزيز إيديولوجي، سواء كان ذلك خطبة جمعة، أو أنشودة، أو ممارسة لجهة حكومية في غزة، أو محض موقف شخصي لفرد لا يحمل أي صفة ولكنه محسوب على حماس!
وإن كانت التجربة الشخصية وحدها لا تصلح للتعميم فإنها تكفي للتدليل على وجود التنوع بصرف النظر عن حجمه، ومن ذلك أن أكثر ما قرأته من أدب فلسطيني وعالمي، بما في ذلك أدب كنفاني، كان في مكتبات حماس داخل سجون العدو، وأذكر أنني أدخلت إلى سجن مجدو عام 1998 روايات حنا مينا، ولم ألق نكيرا من أحد، وإن وجدت استغرابا من شخص واحد فقط، هذا مع أن عمري حينها كان سبعة عشر عاما فقط!
تكشف هذه النظرة العلمانية الإقصائية عن تعاليها الفجّ وقِصَرِها الشديد ونزعتها الاختزالية وغفلتها عن السياقات الموضوعية والتاريخية؛ برفضها للمفردات الإسلامية المستخدمة في الصراع، بالرغم من أن هذه المفردات سابقة على وجود الإسلاميين، ومُتضمَّنة في اللغة الشعبية السائدة المتولدة من رحم الثقافة الدينية للشعب الفلسطيني، كمفردة الجهاد التي لم يخترعها الإسلاميون، أو مفردة الاستشهادي المشتقّة من مفردة الشهادة.
وحتى السردية الدينية للصراع مع الصهاينة، فإنها تجلي للوعي الشعبي أكثر مما هي سردية خاصة بالإسلاميين الفلسطينيين الذين يحرصون في كثير من أحوالهم على التخفف من اللغة الدينية ولا سيما في الخطاب السياسي. وإذا كان الأمر كذلك، فمن باب أولى أن ترفض هذه العلمانية الإقصائية حق الإسلاميين الفلسطينيين في امتلاك رموز خاصة بهم، حتى لو كانت أقرب إلى المجتمع ووعيه وثقافته من كل رموز اليسار الفلسطيني!
هذا الرفض سيطال بالضرورة الدين نفسه، وإن على الطريقة الحداثية التي تعيد صياغة الدين بما يناسب معطيات الحداثة، في عملية تحديث قهرية فوقية، وتنال من حق الناس في فهم الدين والمساهمة في صياغة شكل حضوره في المجال العام، ومن هنا يبدو الوجود الإسلامي في صيغه التنظيمية والسياسية، بالنسبة للعلمانية الرافضة له، مجرد عملية طائفية تستشعر التميز الهوياتي وتستبطن قدرا ما من الإقصاء، في مفارقة عجيبة وهي لا ترى مثلا في الماركسية اللينينية التي هيمنت على الحركة الوطنية ردحا من الزمن شيئا شديد الغرابة على المجتمع الفلسطيني!
هنا أصل المشكلة، فالهوية الإسلامية لا تتطلب بالضرورة عدوا داخل المجال العربي أو الفلسطيني تعرّف نفسها بالاختلاف معه، ولكنها موقف من الحداثة الغربية وطريقة استدخالها على الوعي والواقع العربي والإسلامي بما فيه الفلسطيني، وتعبير عن القطيعة الحضارية التي فُرضت على الأمة وحرمتها من تطوير نموذجها الخاص، لكن اعتبار معطيات الحداثة الغربية معطيات نهائية، وأنها أقصى نهاية التاريخ، يحول دون فهم طائفة من العلمانيين للسياق الطبيعي الذي وجد فيه الإسلاميون.
الفكرة هنا متعلقة بحق الإسلاميين في الوجود التنظيمي والسياسي بما يتضمنه من خطاب ومساهمات في النضال والمجال العام، وليس في صحة أطروحات الإسلاميين، أو في نتائج هذا الوجود.
من بداهة العقل أن رفض هذا الحق، وعزله تماما عن جذوره وعناصر الاستمرارية فيه مع الشعب وشعوب المنطقة وتجربتها الحضارية؛ هو الإقصاء بعينه، بيد أن المفارقة لا تتوقف هنا، ولكن الممارسات الإقصائية مورست تاريخيا من طرف فصائل منظمة التحرير على الإسلاميين الفلسطينيين الذين تعرضوا لأشكال متعددة من الاضطهاد والقمع في السجون والجامعات وميادين النضال منذ سبعينيات القرن الماضي. ولا يقل عن ذلك مفارقة اعتبار الأكثريات السياسية، هويات طائفية انقسامية!