لم تكن طالبة الصفر الشهيرة "مريم ملاك زكريا"، بحاجة إلى تدخل الكنيسة فيما لا يعنيها، كما لو كانت دولة من دول الجوار من حقها أن تهتم بشؤون رعاياها في البلاد الأخرى، فهناك حشد مجتمعي يؤازر "مريم"، بشكل أثار استفزاز كثيرين، لم يستطيعوا أن يستوعبوا هذا الاهتمام الإعلامي الذي انتقل للمجتمع، لاسيما وأنها ليست أول أو آخر من يظلمها "كنترول وزارة التعليم"، فهناك كثيرون لم يجدوا من يهتم بهم مثلها، ومن هنا جاء القطع بأن هذا الاهتمام مرده إلى أنها مسيحية، وجاء البيان الكنسي ليعزز من هذا الشعور لديهم!.
منذ بداية الأزمة أعلنت موقفي المنحاز لطالبة محافظة المنيا "مريم"؛ ذلك بأن ما حدث معها حدث من قبل مع كثيرين، انتهى بهم المطاف إلى مرضى نفسيين، ومنهم من يجتر آلامه في صمت، ولا شك أنهم كانوا أحسن حالاً من "مريم" لأن منهم من نجح وحصل على درجات متدنية، تمكنوا بها من الالتحاق بمعاهد أو كليات لا تروق لهم، وكانوا قد كدوا وكافحوا من أجل تحقيق أحلامهم وأحلام آبائهم بالالتحاق بكليات القمة!.
كما أن "مريم" مع حصولها على الصفر كانت أحسن حالاً منهم، لأن حالتها وقعت في زمن هيمنة الإعلام، فتحولت قضيتها إلى قضية رأي عام، وهي محظوظة ولا شك، لأنها نجحت في الوصول إلى البرامج التلفزيونية وصفحات الصحف، في حين أن هناك 40 طالباً باعتراف وزير التعليم تظلموا من نتيجتهم في الثانوية العامة هذا العام، ومنهم من حصل على صفر مثلها، لكن حظه لم يكن من "حظ مريم"، وظني أن الاهتمام الإعلامي راجع لمحاميها شقيق الفنان "هاني رمزي"، وهو له حضور إعلامي في القضايا ذات البعد الطائفي، فربما استغل علاقاته الإعلامية في إبراز قضية موكلته!.
في كل منطقة أو قرية في
مصر تجد ضحية أو أكثر من ضحايا "كنترول الثانوية العامة"، يشار لهم بالبنان، وعلى مدى السنوات الماضية، وكثيرون منهم لم يفكروا مجرد التفكير في التظلم من النتيجة، لأنه لم يحدث أن استفاد متظلم من تظلمه، لاسيما وأن هذا التظلم لا يكون على عمل "المصحح" فهو لا يرد القول لديه، ولكن ما يطلق عليه "إعادة التصحيح" بعد التظلم ودفع الرسوم اللازمة، وهو إعادة رصد الدرجات، التي يقوم بها موظف إداري بـ"الكنترول" فربما لم يرصد درجة سؤال، أو أخطأ في الجمع، وفي النهاية فإن الخطأ من هذا النوع لو وقع وجرى تصويبه فلن يغير من المجموع الكلي كثيراً، ولن يضيف نسبة تغير من شكل النتيجة التي حصل عليها صاحب التظلم!.
في بلدتنا في صعيد مصر، كان هناك شخص يكبرنا بسنوات يكلم نفسه، وأحيانا يتحول إلى خطيب ديني أو سياسي بحسب الحالة، بينما الصبية يقذفونه بالحجارة، فيتفادى المقذوف وإن لم يتوقف عن المهمة التي يقوم بها، خطيباً أو واعظاً.
وما أنتج هذه الحالة النفسية هو أنه كان يجري استبدال أوراق إجاباته عقب كل امتحان وهو الطالب المتفوق بأوراق أخر لم يكن مستهتراً مثل الذي استفاد من أوراق "مريم"، فقد كان يقوم بالإجابة في حدود استطاعته، ومكن جهده صاحبنا من النجاح ولكن بمجموع متواضع أهله للالتحاق بمعهد سنتين بدلا من دخول كلية من كليات القمة!.
التصعيد الإعلامي في قضية "مريم" فتح الأعين على عملية تحدث كثيراً وهي استبدال أوراق الإجابة في لجان الامتحانات قبل أن تصل إلى "الكنترول"، ولهذا فقد كان كشف الأمر سهلاً، ولا يحتاج إلى ما قامت به جهات التحقيق من استكتاب وفحص ومحاولة إثبات أن الخط الوارد في أوراق الإجابة هو خطها "الخالق الناطق"، على النحو الذي جاء في تقرير الطب الشرعي ورفضه الرأي العام، مع أن النيابة العامة قررت حفظ البلاغ الذي تقدمت به "مريم" بناء على هذا التقرير!.
الشاهد هنا أننا أمام طالب يبدو أن والده صاحب نفوذ، فكان يعلم بنتيجة الاتفاق مسبقاً فلم يكلف خاطره بأن يفعل المتوارث من أمر الطلاب الذين لا يعرفون إجابات على الأسئلة التي أمامهم، فيقومون بملء الأوراق بأي كلام ولو بإعادة نقل الأسئلة إلى أوراق الإجابة فربما صادف هذا "مصحح" سمح فيمنحه درجة "المجتهد" وهي درجة النجاح، لكن صاحبنا في حالة "مريم ملاك" لم يفعل هذا وإنما انشغل بالشخبطة في الأوراق، ولمن لا يعرف معنى "الشخبطة" عليه الاستماع لأغنية نانسي عجرم "شخبط شخابيط"، التي هزت وجدان مولانا الشيخ أسامة القوصي الداعية الكبير هزاً ورجته رجاً!.
إذا أحسنا الظن بجهات التحقيق، لقلنا أنها تصرفت على طريقة جحا في إجابته على سؤال عن أين أذنه؟.. ومعروف أن رفع يده اليمني ودار بها خلف عنقه ليمسك بأذنه اليسرى ويقول: ها هي. وعلى طريقة: وجدتها!.
ذلك بأن الأمر كان يستدعي أن تلقي أوراق الإجابات الخاصة باللجنة التي أدت فيها مريم امتحاناتها لتستخرج أوراقها، وهنا يمكن استكتابها وتحليل الخطوط بالطب الشرعي على هذه الأوراق التي بها بالفعل كلام مرصوص وليس مجرد "شخابيط"!.
وإذا أسنا الظن لقلنا أن الطالب صاحب "الشخابيط" يراد حمايته، لأن الجهات الرسمية لم تفكر مرة في أمره، حتى والنيابة تعلن ثبوت تلاعب بنتيجة الطالبة وألزمت وزارة التربية والتعليم بمحاسبة المسؤولين عن هذا التلاعب. وهو الإعلان الذي قابله وزير التعليم بأنه سيعتذر لمريم، دون ان يكلف خاطره بإعلان القيام بمهمة تفتيشية لمعرفة من منحت له أوراقها، وهذا لن يكشف عن الطالب الفاشل فقط ولكن سيكشف عن باقي أفراد العصابة في هذه اللجنة، مما يضع حداً في المستقبل لمثل هذه الجريمة التي لها ضحايا في كل عام.
وإذا وقفنا بين المنزلتين، منزلة حسن الظن وسوئه لقلنا أنها السلطة التي لا تريد أن تدين نفسها، ولا تريد أن تفتح عليها في المستقبل أبواب جهنم عندما يضغط الرأي العام بهذه الواقعة لوضع قواعد التظلم في الموضوع وليس في الشكل، بعد أن تبين أن لجان الامتحانات وكنترولاتها ليست مقدسة، وينبغي رفع القداسة عن كهان أخر الزمان!.
لقد رضينا بالهم والهم لم يرض بنا، وقبلنا إعلان النيابة ورد الوزير على مضض، فإذا بنا نفاجأ بان النيابة يصلها تقرير الطب الشرعي وتعلن حفظ بلاغ "مريم ملاك" لأن التقرير أكد أن "الشخابيط" خاصة بها وأنها حصلت على "الصفر عن جدارة"، فعلى أي أساس استندت النيابة في البيان الأول الخاص بثبوت التلاعب؟!
لقد رفض الرأي العام الضاغط هذا القرار، والتقي إبراهيم محلب بمريم، وتم إسناد مهمة التحقيق للنيابة الإدارية!.
والأمور بهذا الشكل تمشى في سياق لا بأس به؛ فالسلطة تريد أن تنجو بجريمتها والإعلام يضغط عليها، وإذا بمطرانية مغاغة والعدوة للأقباط الأرثوذكس بمحافظة المنيا تدخل على الخط منتصرة لابنة الكنيسة "مريم"، لينتقل "الصفر" إلى "صفر" للكنيسة المباركة!.
قرأت تصريحات كنسية في بداية "أزمة الصفر"، لكني كنت حريصا على تجاوزها، لكن إزاء هذا البيان العاصف لجهة كنسية رسمية كمطرانية مغاغة والعدوة، يصبح التجاهل جريمة وطنية لأنه تدخل يمثل تراكماً في حالة معينة يقود البلاد إلى المجهول. وليس اكتشافاً إذا قلت أن بعض النفوس تمتلئ بالمرارة من هذا الحضور الكنسي في مشهد الانقلاب، وهو لم يبدأ بحضور البابا تواضروس "في الصورة" وقائد الجيش المتمرد يعلن بيانه الانقلابي على الرئيس المدني المنتخب، ويطيح بدستور حصل على تأييد 65 في المائة من أصوات الناخبين. ولكن كانت البداية في التظاهرات السابقة في ميدان التحرير وفي حصار الاتحادية فقد شاهدنا رهباناً هنا وهناك!
وإذا كان على مستوى النخبة يمكن غض الطرف على كل هذه الأحداث، فإن شريحة من المواطنين لا يمكن دفعها لنسيان ذلك، لاسيما وان محمد مرسي ليس هو أول رئيس مدني منتخب فهذا أمر يخص أمثالي، ولكن عندهم هو أول رئيس ينتمي للتيار الإسلامي وهذا الحضور الكهنوتي في مشاهد الإطاحة به، أمر إن لم يعالج فسوف تكون نتيجته لا نتمناها ولا نرضاها.
لقد اعتبرت الحضور الكنسي في عزاء فقيد "الجماعة الإسلامية" مجدي دربالة الذي مات في سجنه، تصرفاً ذكياً من نفس هذه الكنيسة ( كنيسة المنيا)، إذ رأينا فيه مصر الحقيقة التي نعرفها، بما يطيب الخواطر، وجاء تدخل هذه الكنيسة في موضوع مريم، ليعزز الشعور في حال إنصافها بأن ذلك تم لأنها مسيحية وليس لكونها صاحبة حق.
نعلم أن الكنيسة تجاوزت مجالها الحيوي منذ عهد البابا شنودة، الذي قدم نفسه على أنه زعيم سياسي متجاوزاً كونه الأب الروحي لأتباعه، وهو ما قمت بمعارضته في مواقع كثيرة دفاعاً عن الدولة المدنية!.
لكن البابا شنودة كان وهو يجعل من نفسه رئيس الحزب المسيحي المصري يتمتع بالذكاء، الذي لم يجعله يتدخل في التفاصيل اليومية، وتبقي المشكلة في أن البابا الحالي الذي لا يمتلك مهاراته على أي صعيد ولا عقله الحاكم، يترك الأمور لتدخل مطرانية العدوة ومغاغة في نجاح تلميذ أو رسوبه.
ويا قومنا في كنيسة العدوة، "مريم" قضية مصرية بامتياز وليست شأناً كنسياً إلا اذا كان الانقلاب رتب لكم أوضاعاً في الدولة المصرية لا نعرفها.