لو لم يكن له إلا دوره في تفجير انتفاضة القضاة ضد نظام مبارك لكفاه.
إنه المستشار محمود
الخضيري، الذي يدفع الآن ثمن كل مواقفه النضالية في سجون الثورة المضادة، فلم تمنع شيخوخته ومرضه دون التنكيل به بواسطة نظام المخلوع الذي عاد عبر "عبد الفتاح السيسي"، الذي يناصب كل خصوم مبارك العداء، والذي قرر الانتقام من كل من شارك في ثورة يناير، حتى أولئك الذين مثلوا غطاء مدنيا للانقلاب العسكري.
"الخضيري" وبصفته رئيس نادي قضاة الإسكندرية، فجر شرارة النضال ضد مبارك، ليتلقفها المستشار زكريا عبد العزيز رئيس نادي قضاة
مصر، فتشهد مصر انتفاضة غير مسبوقة، تطالب باستقلال القضاء، وترفض الإشراف المنقوص على الانتخابات البرلمانية، وتعلن أن قضاة مصر لن يكونوا شهود زور بإشراف لا يشمل العملية الانتخابية برمتها. وكانت مفاجأة أن أول جمعية عمومية للنادي تعلن النضال قوامها تسعة آلاف قاض، كما كانت مفاجأة لنا أن السواد الأعظم منهم من شباب القضاة.
لم يكن النظام الحاكم قد مس امتيازات القوم، ومع هذا خرجوا للشارع بالأوشحة، على نحو كاشف أن حكم مبارك فقد مبرر وجوده، والذي رد على هذه المطالب بإلغاء الإشراف القضائي برمته على العملية الانتخابية والعودة إلى إشراف الموظفين، بتعديل في الدستور، ظن أنه سيعصمه من الغرق، فكانت الثورة، التي شارك فيها المستشار محمود الخضيري بقوة، وكان قد استقال من العمل القضائي قبلها، وقبل وصوله لسن خروجه على التقاعد، ليكون بعيدا عن قيود الوظيفة وموانعها.
في البداية، ظننت أن الرجل منتم لأفكار جماعة الإخوان المسلمين، وتنبأت بأنه عندما يتحلل من عمله كقاض سيكرر تجربة المستشار حسن الهضيبى المرشد العام الثاني للجماعة، وكثيرا ما اتهمه إعلام مبارك بذلك، لكنه استقال ولم ينضم للإخوان وظل على استقلاله. وعندما ترشح لانتخابات مجلس الشعب في إحدى دوائر محافظة الإسكندرية، قلنا إن موقعه الطبيعي هو رئاسة هذا البرلمان، فإذا لم يكن هو الرئيس وهو قاض مرموق، ومنتمٍ للثورة بجدارة، فمن يكون رئيس برلمان الثورة؟!
وقد خاض الرجل انتخابات وعرة في إحدى دوائر محافظة الإسكندرية، وقف السلفيون فيها مع خصمه الذي استدعي لمهمة إسقاطه وهو شقيق رجل الأعمال المسجون في قضية مقتل "سوزان تميم" هشام طلعت مصطفى، فدخل بكل قوته، يسنده المال، كما تسنده سمعة لا بأس بها، لكن تدينه من النوع الخاص بصاحبه، فلم يكن له دور في النضال، ولا دور في الثورة، وعندما خاض الانتخابات، كان ذلك وفق قواعد دولة مبارك بالحفاظ على مقعد شقيقه.. لكن هل كان من يؤازرونه والذين حصلوا على الأتعاب بالوقوف بجانبه علاقة بالثورة أو بالنضال؟ وهم الذين تنازلوا عن دم ابنهم "سيد بلال"، الذي قتل على أيدي زبانية التعذيب، وهم يدفعونه للاعتراف بارتكاب جريمتهم المتمثلة في تفجير كنيسة القديسين!
لقد كاد دم "سيد بلال" يذهب فطيسا، لولا تنديد الدكتور محمد البرادعي بجريمة قتله، ومع ذلك فإن رموز السلفية دفعوا في اتجاه طوي صفحة اغتياله، فحالوا دون أن يكون، وهو شهيد دولة الاستبداد والإجرام أيقونة للثورة، في حين أن خالد سعيد الذي قتل في ساحة أخرى وبملابسات معروفة، تحول إلى أيقونة لها، بصمود أسرته، واستعدادها للتعامل كما لو كان الفقيد هو أحد أبطال حرب أكتوبر!
المراقبون والمشاركون في هذه الانتخابات يعلمون الثمن الذي دُفع لوقوف السلفية الرسمية ضد الخضيري، وكانت دولة مبارك حاضرة من وراء حجاب، تعمل على إسقاط أحد رموز الثورة انتقاما منه في شخصه.
يحسب للإخوان أنهم لم ينسوا فضل الرجل، وجعلوا من معركته الانتخابية معركتهم، ووصلت منهم إشارات تفيد أنه رئيس برلمان الثورة، ولو فعلوا لما تمكن أحد من المزايدة عليهم، لاسيما وأن المعركة كانت لا تزال مشتعلة بين من يمثل الثورة: البرلمان أم الميدان؟! لكنهم ظنوا أنهم لن يهزموا بعد اليوم من قلة، فسيطر عليهم فقه التنظيم لا أسس بناء الدول، ففضلوا عليه الدكتور سعد الكتاتني، الذي لم يكن بأدائه إضافة، وهو الذي حرص على استدعاء طريقة فتحي سرور رئيس برلمان مبارك في إدارة الجلسات، وباستخدام العبارات التي ارتبطت به، وكانت بداية القصيدة كفر، عندما وجد أن رئاسته للمجلس لا تكتمل إلا في استمرار الأمين العام للبرلمان منذ رئاسة "صوفي أبو طالب"، "سامي مهران" في موقعه، وكان قد أحيل لجهاز الكسب غير المشروع بعد الثورة، ومنع من السفر، لكن الكتاتني حصل له على إذن بالسفر معه، من جهات التحقيق، في أول جولة خارجية له وكانت للكويت.
لقد كان "الخضيري" له دوره الفاعل في الثورة، وفي ميدان التحرير، وكان حضوره بكل ثقله، يمثل دلالة بأنها ثورة وليست مجرد "هوجة شباب"، وعندما تنحى المخلوع، تزعم المحكمة الشعبية له في "ميدان التحرير"، وهي المحاكمة التي حاول المجلس العسكري بطرقه إفشالها، وعندما قام المخلوع بمداخلة في قناة "العربية" من شرم الشيخ، وجد الثوار في هذا تحديا للثورة وكان قرار المستشار محمود الخضيري هو الدعوة لحشد من الثوار بسياراتهم يتوجهون لشرم الشيخ، للقبض عليه.
عندئذ لم يجد المجلس العسكري الحاكم من سبيل في مواجهة المد الثوري، إلا أن يتدخل بحبس مبارك، وكان في الواقع يحميه، إلى أن يصبح الظرف مواتيا للإفراج عنه.
وقد كان "الخضيري" دائما صوت الثورة الفصيح والشامخ، وهو مثل معنى لوصف كنا نطلقه على القضاة من أمثاله، ويجري ابتذاله اليوم، وهو "القاضي الجليل"، وقد حدثني زميل مراسل لإحدى الفضائيات كان قد ذهب للإسكندرية لتغطية الانتخابات البرلمانية، كيف يعامل القضاة في اللجان الانتخابية الرجل في جولاته، وكان شباب القضاة ينحنون ويقبلون يده. وأكاد أسمع الآن "همهمات" من الذين يتحركون في دوائر العدم وتنطلق تعليقاتهم من العدم أيضا.
فقبل كلامهم العدمي، الذي قد يدور حول أن جميع القضاة هم في معسكر الثورة المضادة، وليس فقط من يشاركون في عدد محدود من الدوائر تتولى محاكمة الإخوان، علينا أن نسأل من المسؤول عن غياب من شكلوا أول جمعية عمومية في مواجهة مبارك، ودعوا لاستقلال القضاء دون أن يكون قد "داس" لهم أحد "على طرف"، وكانت هيبتهم محفوظة وقد تأثرت بنضالهم وخروجهم للشارع، وكانوا في غنى عن هذا كله.
لا أدعي أنني أمتلك إجابة على ذلك، وهو ليس موضوعنا، فموضوعي هو المستشار محمود الخضيري، الذي أدار اللجنة التشريعية في البرلمان باقتدار، وكثيرا ما وضع اللواء ممدوح شاهين مساعد وزير الدفاع للشؤون الدستورية والقانونية، في حجمه الطبيعي، وهو الذي كان يجري تقديمه رغم ضحالته القانونية، كما لو كان عبد الرازق السنهوري باشا الفقيه القانوني التاريخي المعروف. وكان شاهين في اجتماعات اللجنة في البداية يتعامل على أنه "المندوب السامي العسكري"، لكن مثل هذا الكلام لم تكن لتقبله قامة قانونية بحجم "الخضيري"، كما لا يقبله رجل انتماؤه للثورة أصيل، فعامل شاهين على أنه واحد من آحاد الحاضرين.
ولهذا فالخضيري يدفع ثمن كل مواقفه النضالية، في سجون الانقلاب، دعك من أفلام الكارتون وأنه عذب محاميا في ميدان التحرير إبان الثورة وصعقه بالكهرباء.
إنها الثورة المضادة تنتقم من أحد رموز ثورة يناير، ومفجر شرارة انتفاضة القضاة "القاضي الجليل" المستشار محمود الخضيري.
[email protected]