رغم وفاته منذ سنين عديدة ورغم انهيار النموذج المجتمعي الذي ارسى دعائمه بفعل ثورة الرابع عشر من جانفي هناك في
تونس من يريد إرجاع
بورقيبة إلى الحياة العامة، واقحامه في المشهد السياسي التونسي.
لا يمكن للعين أن تخطئ حملة علاقات عامة سخية التمويل لبعث بورقيبة شخصيا في صلب المعيش اليومي للتونسيين، فسواء تعلق الأمر بوسائل الإعلام أو بالحياة السياسية أو بالمجتمع المدني أو غيرها من مظاهر الحياة، وحيثما حدث أو تعلق الأمر بسؤال في مشاغل الحياة أو بالخيارات الإستراتيجية أو نحوها، مما يتعرض له السير العادي للمجتمع، فرض على التونسيين مقارنة ما كان عليه الأمر في أيام بورقيبة، وبما بعده ودفعوا بأكثر أساليب الدعاية السوداء إلى تفضيل أيامه على سواها.
في المقابل لا يبدو أن هناك من يمكنه حتى مجرد الصمود أمام الإغراء الذي تمارسه البورقيبية على الجميع، وسواء كان الأمر متعلقا بالتحرر فلا تحرر إلا ما أنجزه بورقيبة، ولا شهداء إلا شهداء الحركة الوطنية التي قادها بنفسه، ويختفي كل إنجاز لم يشارك فيه بورفيبة أو أحد أبنائه البررة بشكل مثير، حتى أن التونسيين تناقلوا بشعور المتألم قول أحد من ينسب نفسه إلى بورقيبة قوله، إن بورقيبة هو من علم التونسيين تنظيف أسنانهم. ويشتد المشهد درامية عندما يراد لتونسيين أن يقتنعوا تلك الوسائل السوداء نفسها، أن التاريخ توقف بموت بورقيبة، وأن كل ما حدث بعده بما في ذلك ثورة جانفي هي أخطاء متراكمة هم مدعوون للتبرؤ منها.
هذه العودة الملفتة والشبه مرضية لبورقيبة وللبورقبية لا يخفي على التونسيين من القائم بها، ويبدو أن الأطفال أيضا في مقدورهم فهم أن الهدف من وراء ذلك هو تكريس استمرارية الوضع القائم؛ أي على التوزيع الظالم للثروة، والسلطة الموروثة عن بورقيبة، والذي كان مهندسه الأول؛ لذلك من السهل على الجميع ملاحظة أن ذوي المصالح السياسية، والمنافع المادية التي اكتسبوها في عهد بورقيبة، أو خلفه هم من يغذون هذا العلف المركب للتونسيين من أجل بقاء مصلحهم ومنافعهم، ويبعون بورقيبة للشباب بطريقة بيع الزبادي نفسها.
من المفارقة أن من يتمسحون اليوم بقبر بورقيبة، ويحيون ذكرى مولده أو وفاته هم أول من سلموه مغلولا في السلاسل لبن علي الذي سجنه في بيته سنين عديدة أطول بكثير من تلك التي قضاها في سجون المحتل الفرنسي زمن الاستعمار. ومن المفارقة أيضا أن يسعى هؤلاء الذين ينسبون أنفسهم إليه إلى التحالف مع كل الأطياف التي ناصبها بورقيبة العداء، وتشريدها في السجون والمنافي.
ومن المفارقة أيضا أن هؤلاء المتمسحون به كانوا أشد الناس عداءا لفكرة الأمة التونسية التي سخر لها بورقيبة حياته، ذلك أن أغالبهم إما جهويون متعصبون لا يرون تونس إلا في حدود جهاتهم، ومستعدون للتضحية بباقي تونس من أجل أبناء عشيرتهم، وإما متعصبون لمنافعهم الخاصة التي اكتسبوها منحا وهدايا، وهم أيضا مستعدون للتضحية بالدولة ذاتها من أجل بقاء منافعهم غير المشروعة، والتي يورثنها أبنائهم وأقاربهم.
في المقابل يتلقى غالب الشعب هذا البعث المنافق لبورقيبة وللبورقيبية بلامبالاة مريرة، ولا يبدو أنه يهتم كثيرا بصراع الديكة الذي يثيره البورقبيين دفاعا عن بورقيبة، ولا وجود لاهتمام فعلي بهذا السعي المحموم لإثارة ما يمكن تسميته بالبورقيبية الجديدة، وتلك بورقيبة في حد ذاتها تقع خارج اهتمام التونسي بل وخارج رهانات الثورة التي أنجزها ضد بورقيبة نفسه، وأتباعه ونموذج الدولة التي أنشئها.
وفي حقيقة الأمر، فإن البورقيبية لا تعني شيئا لكونها جزء من المشكل، وليست جزء من الحلول الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي راهن عليها من خلال الثورة، ولو كانت البورقيبية هي الحل لما كانت سبب الأزمة الحضارية التي أدت إلى الثورة. كذلك فإن البورقيبية التي يدافع عنها من هم أصلا سبب انحياز الدولة، وظلمها الذي أدى للانقلاب عليها في الثورة لا يمكنها أن تمثل قشة نجاة لكونها لا تحتوي على مشروع اجتماعي تحرري، فهي من الناحية الاقتصادية تطبق تعليمات البنك الدولي لاقتراض المزيد، ومن الناحية الاجتماعية عملت لعقود على تقنين الفقر والتفاوت، ولم تقدم غير حلول مؤقتة، ولم تستثمر في البنية التحتية بشكل يسمح بالتوسع الاقتصادي الذي يقود إلى التحرر الاجتماعي. وفي الحقيقة لم يبقى من البورقيبية غير بعض العناوين كتحرير المرأة، والذي ينحصر فقط في قانون منع تعدد الزوجات، ولم يكن رافدا لتحرير المرأة التونسية من مختلف أشكال الظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي تعانيه إلى اليوم.
في مقابل التونسي البسيط الذي يمر مر الكرام على البعث العنيف، وغير المحتمل لبورقيبة من طرف زبانيته يواجه جزء من التونسيين هذا الإحياء بالنقد الشديد، ويرون فيه الجبة التي يسعى من خلالها النظام القديم إلى العودة إلى السلطة، وتمديد أمل المتنفذين ومن يسمون أنفسهم رجال أعمال؛ لذلك يكشفون كلما أتيحت لهم الفرصة هذا المشهد المقرف لمجموعة من الشيوخ الذين دفعوا لتسيير الشأن العام، ولا غاية لهم غير تمديد أنفاس البورقيبية.
ينطلق هؤلاء الناقدين للبورقيبة من فشلها الاجتماعي والاقتصادي أولا، والذي مثلت الثورة الشعبية الدليل الساطع والحجة البالغة عليه، ولكن أيضا من فشلها السياسي باعتبارها كانت ولا تزال قرينة الاستبداد؛ حيث منعت بقوة الحديد والنار المجتمع التونسي بعد الاستقلال من التطور طبيعيا في سياق ديموقراطي، يحترم فيه المتحاورون بعضهم البعض، ويتداولون سلميا على السلطة، وأجلت نتيجة لذلك؛ الحسم في كثير من القضايا المصيرية للشعب التونسي.
لكن الفشل الأكبر للبورقيبية؛ هو افتقادها لمشروع سياسي ورؤية حضارية، وكل ما ينسب إلى البورقيبية، هو في الواقع مواقف وآراء لبورقيبة بعضها بتأثير الغضب، وبعضها بتأثير جنون العظمة، ولا نجد تصورا سياسيا متكاملا يمكنه أن يتجاوز بورقيبة في شخصه، وسبب ذلك أن بورقيبة لم يسعى إلى هكذا هدف، وكان كل ما يسعى إليه هو تحقيق أهدافه الشخصية الضيقة، وفرض تصوراته المزاجية على الشعب وإدارة جمهورية تجسد فعلا جمهورية موز.
لذلك إنفض عنه المنافقون له حالما انقلب عليه الزعيم الثاني الذي ليس سوى أحد تلاميذ جمهورية الموز ألا وهو
بن علي. لم يكن انقلاب السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر الذي جاء به إلى السلطة إلا مناسبة ليتنصل البورقبيون من بورقيبيتهم، وليلتحقوا سريعا ودون تردد بالعهد الجديد الذي جاء به بن علي، وبمقتضاه تم ادامة شرعية جمهورية الموز أكثر من 20 سنة أخرى. ما بقي من بورقيبة وانتقل إلى بن علي مسلمات خطيرة؛ أهمها أن الشعب جاهل، وينبغي تربيته، وأن التفاوت بين الأفراد والجهات هو من الأمور الطبيعية، وأن الشعب التونسي لا يستحق الحرية السياسية، ولكن الأخطر على الاطلاق هو الاستحواذ على الدولة، وتحويلها إلى ماكينة رهيبة للقمع لا هدف لها سواء بقاء التوزيع الظالم للثروة والسلطة على حاله.
لم يكن لهذا الإرث أن يظهر للعيان، وأن يمثل مشكلا إلا بفعل الثورة التي كشفت عن فشله الذريع. وكأن الأمر يحتاج إلى حجة جديدة لأثبات هذا الفشل إنبرى البورقبيون إلى إحياء البورقيبية من جديد لا باعتبارها رؤية وتصورا متكاملا للمجتمع التونسي، بل باعتبارها خندق يجتمع فيه المستفيدون من نظام بورقيبة في نسختيه، ولا هدف لهم إلا الدفاع عن مصالحهم فليس للبورقيبية في الحقيقة أي مضمون نظري أو قيمي، ولم يسعى بورقيبة ذاته إلى بناء هذا المضمون، نفوذهم وسيطرتهم على مفاصل الدولة مكنهم من إحياء بورقيبة، وفرضه على الشباب الثائر فرضا محاولين جعله مرجعا لثورة ما تزال إلى اليوم تبحث عن مضمونها النظري ومرجعتيها الفكرية. ما يراد من بورقيبة هو ادامة نمط من الحكم لا مرجع فيه إلا الولاءات الشخصية والجهوية، ولا برنامج اقتصادي له إلا متطلبات البنك الدولي ولا مضمون حضاري له إلا فكرة غائمة عن وهم الأمة التونسية.
للمرة ثانية يغدر البورقيبيون ببورقيبة لكون الثورة كانت مناسبة لحكم موضوعي، وغير متشنج على المرحلة البورقيبية في إطار حوارات تفرض نفسها على التونسيون، ودون أجندات حزبية، لكي يتمكن الشباب الثائر من الحكم على بورقيبة، ولكي يقع امتحان التجربة في مواطن فشلها لتجنيب البلاد فشلا جديدا. للمرة الثانية يعجز بورقيبة أن يتجاوز كبار السن، وأن ينتشر بين الشباب بناة المستقبل، وينحصر دوره اليوم (رغم حضوره الإعلامي العنيف) في إعادة الذكرى إلى بعض الشيوخ.
لكن بورقيبة الذي يراد له أن يحيا من جديد سواء في نفوس أصحاب مكرماته، أو في نفوس أصحاب الحداثيين والمدافعين عن نمط المجتمع التونسي انتهى إلى حيث ينبغي أن ينتهي، وانقضى أجل الانتفاع به إلا في سياق نقدي، وهو لا يمكن أن يكون مفيدا للشباب إلا من هده الزاوية أي باعتبار الأخطاء التي وقع فيها، والتي حالت دون التونسيين والتحرر والعدالة، ووجدوا أنفسهم بعد خمسين عاما من حكمه مضطرين لحرق أنفسهم بالبنزين للحفاظ على الحد الأدنى المعيش أو القاء أنفسهم في مغامرة البحر القاسية طمعا في تحسين وضع اجتماعي شخصي، أو أخيرا تسليم أنفسهم للتنظيمات الاستخباراتية التي تعدهم بالجنة وتضحي بأرواحهم وتتاجر بها.
دون تمحيص نقدي للتجربة البورقيبية لن تتمكن تونس من إعطاء الرجل حقه ما له وما عليه بل لن تتمكن من معرفته على حقيقته، وإذا كان إعلام بورقيبة أخفى عنا كتونسيين بورقيبة الحقيقي، فإن سماسرة المال العام، والتشكيلات المافوزية تخفيه من جديد، ولن يتمكن الشباب من التعرف عليه والحكم عليه، وسيضل مجهولا في حقيقته، وبدل أن تنصف الثورة الرجل يتحول من جديد إلى بائع للموز حيا وميتا.