كتب داود عبد الله: حكم بلده الإفريقي الصحراوي بقبضة من حديد ما بين عامي 1982 و1990. وبعد خمسة وعشرين عاما من الإطاحة به تجري الآن محاكمة
رئيس تشاد السابق حسين حبري في السنغال أمام محكمة أفريقية استثنائية بتهمة ارتكاب
جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والتعذيب. ما من شك في أن محاكمته تمثل لحظة فارقة في مسار العدالة داخل القارة الأفريقية.
ما الذي تعنيه مثل هذه المحاكمة بالنسبة للمصريين؟ من المؤكد أنها ستلقى منهم اهتماما كبيرا، وذلك لأنه، وعلى الرغم من الفروقات الواضحة بين الحالتين، ثمة تشابهات ملفتة للنظر بين الحالة التشادية وحالة مصر تحت حكم عبد الفتاح السيسي.
لقد وجهت لحكومة حبري، تماما كما وجهت لحكومة السيسي، اتهامات بارتكاب عمليات قتل على نطاق واسع بحق المعارضين السياسيين خارج إطار القانون واتهمت حكومته كذلك بممارسة التعذيب والاعتقالات التعسفية بحق الآلاف. وبالفعل، فقد أعدت هيئة الحقيقة التشادية في عام 1992 قوائم بأسماء ما يقرب من أربعين ألف شخص كانوا قد قتلوا أو تعرضوا للتعذيب.
وكذلك في الحالة المصرية تنقل منظمة هيومان رايتس واتش عن "باحثين مستقلين ذوي مصداقية" ما يفيد بأن ما يزيد عن 41 ألف شخص اعتقلوا منذ أن أطاح السيسي برئيس البلاد المنتخب ديمقراطيا محمد مرسي في يوليو من عام 2013.
ومايزال عدد المعتقلين في تزايد. ورغم ما يبدو حاليا من أن البلاد تتجه نحو فترة ممتدة يسود فيها التعسف والبطش في غياب المساءلة والمحاسبة، إلا أن ثمة بارقة أمل في أن يتمكن المظلومون من التماس العدالة ولو من خلال محكمة تابعة للاتحاد الأوروبي.
بحسب المواد 3 (ح) و 4 (ح) و 4 (و) من القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي فإن الجرائم التي يتهم بها عبد الفتاح السيسي يقع النظر فيها ضمن صلاحيات الاتحاد. المادة 4 (و) بشكل خاص تسمح للاتحاد الأفريقي بأن يعمل طبقا لمبدأ احترام قدسية الحياة الإنسانية ورفض الاغتيال السياسي والتنديد بالحصانة من المساءلة والمحاسبة وبالنشاطات الإرهابية والأعمال التخريبية.
ونظرا لانعدام الثقة داخل أفريقيا بالمحكمة الجنائية الدولية التي تتخذ من أوروبا مقرا لها، وذلك بسبب ما يعتبره الأفارقة سياسة انتقائية لدى هذه المحكمة في التعامل مع القضايا وتوجها مناهضا بالذات لأفريقيا، يمكن تفهم أن يسعى المحامون الموكلون بالدفاع عن ضحايا نظام السيسي من أفراد الشعب المصري إلى مخاطبة الاتحاد الأفريقي ومطالبته بالإيعاز بالإجراءات القانونية اللازمة لإنصاف موكليهم.
وبالرغم من سجل نظام السيسي السيء في مجال حقوق الإنسان في مصر، تماما كما كان حال تشاد في عهد حسين حبري، فمايزال هذا النظام يستفيد من علاقات خاصة ومتميزة مع الأمريكان والأوروبيين.
ولعل هذا يذكر بما كان عليه الوضع في ثمانينيات القرن العشرين حينما تواطأت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا مع نظام حبري وتعاونت معه في إحباط مخططات معمر القذافي التوسعية في منطقة ما دون الصحراء في أفريقيا. لم يقتصر الأمر على مساعدة حبري في الوصول إلى السلطة بل تجاوز ذلك إلى الإغداق عليه بالمساعدات وخاصة بالمعدات العسكرية التي استخدمها بلا رحمة ولا هوادة في البطش بشعبه.
في آذار/ مارس 2015 أعلن البيت الأبيض بأنه سيرسل إلى نظام السيسي في القاهرة 12 طائرة مقاتلة من طراز إف 16 وكذلك معدات لتجديد وتحسين 125 دبابة من نوع أبرامز، وعشرين صاروخ من طراز هاربون بالإضافة إلى تمويل عسكري سنوي قدره 3ر1 مليار دولار.
وفي مطلع شهر تموز/ يوليو اتخذت فرنسا إجراء مشابها حيث أعلنت عن تسليم مصر ثلاث طائرات مقاتلة من طراز رفائيل كدفعة أولى من صفقة تشتمل على 24 طائرة حربية بقيمة 5.2 مليار يورو (أي ما يعادل 5.6 مليار دولار). وتضمنت الصفقة الفرنسية أمورا أخرى منها عقود خاصة بالصواريخ وأيضا بفرقاطة متعددة الوظائف من أحدث ما توصلت إليه الصناعة الحربية الفرنسية.
نحن هنا بصدد حالة تقليدية لحكومة تسعى للتزود بما لا تملك القدرة على سداد ثمنه. ففي شهر ديسمبر من عام 2014 صدر عن المخابرات المركزية الأمريكية (السي آي إيه) تقرير جاء فيه أن دخل مصر يقدر بما يقرب من 65.48 مليار دولار بينما يقدر إنفاقها بما يقرب من 99.14 مليار دولار، هذا بالإضافة إلى أنها تتكبد دينا خارجيا يبلغ 55.86 مليار دولار.
وفي آذار/ مارس 2015 نشرت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية في الاتحاد الأوروبي تقريرا حول تنفيذ مصر لسياسة الجوار الأوروبي لعام 2014. وصف التقرير العجز المالي بعبارة "مرتفع جداً لدرجة أنه لم يعد يطاق"، حيث وصل إلى 13.6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وأضاف التقرير إنه لولا المنح التي جاءت من دول الخليج لكانت نسبة العجز المالي 17.4 بالمائة. وأشار نفس التقرير إلى حدوث زيادة في معدل الفقر بحيث وصلت نسبة
المصريين الذين يعيشون دون الخط القومي للفقر 25.2 بالمائة بينما بلغت نسبة من يعيشون فوقه مباشرة 23.7 بالمائة.
ما من شك في أن وجود حكومة غير كفؤة وأولوياتها خاطئة أمر سيء بما فيه الكفاية، ولكن أن تكون بالإضافة إلى ذلك غير عابئة بالحياة الإنسانية ولا تحترم كرامة الإنسان فالأمر أشد وطأة وأكثر سوءا.
واليوم، يعاني عامة المصريين من هذا الوضع المأساوي في ظل حكم عسكري يزداد سطوة يوما بعد يوم بفضل تدفق المساعدات العسكرية والأسلحة الفتاكة القادمة من الحكومات الغربية.
ولكن، وكما كان عليه الحال في تشاد، لا يخلو الأمر من احتمال حدوث تمرد أو عصيان أو خصومة ينجم عنها غدر داخل أطر المنظومة الحاكمة ذاتها. فالذي أطاح بحسين حبري في تشاد كان كبير مستشاريه العسكريين والقائد السابق للجيش إدريس ديبي.
في مصر يدور حديث كثير هذه الأيام حول وجود صراع داخل الطغمة العسكرية الحاكمة، ويشار بشكل خاص إلى التوترات المتصاعدة بين الجنرال السيسي وأجهزة الاستخبارات العسكرية.
لقد أسس الاتحاد الأوروبي لسابقة يشكر عليها من خلال تخويله المحكمة الأفريقية الاستثنائية بالصلاحيات القضائية اللازمة لمحاكمة حسين حبري، ويعتبر ذلك انتصاراً مهماً للعدالة وسيادة القانون. وقد كرس هذا الإجراء حقيقة أن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط أبداً بالتقادم، وأن مرتكبها لا يأمن على نفسه من المساءلة والمحاسبة حتى لو كان من أعتى المستبدين ومن أشدهم طغياناً.
ما من شك في أن الشعب المصري سيجد في التجربة التشادية الكثير من العبر والدروس.
(عن "ميدل إيست مونيتور")