في خضم هستيريا التصريحات الإعلامية الموالية لانتصار ايران واندحار أمريكا، أو العكس بالعكس، في مفاوضات التسلح النووي، وفي مئات المقالات والتعليقات التي سُفحت، من خلال أجهزة الإعلام، المتعطشة لملء بثها المستمر، على مدى 24 ساعة يوميا، في أرجاء العالم، وفي حلبة الصراع بين "مثقفي" دول الخليج و "مثقفي" اليسار العربي، الذين طالما تشدقوا بنضال الشعوب، كان الشعب
الإيراني مغيبا، كما هي الشعوب العربية، وكأن "الحدث التاريخي"، كما تم تقديمه من لقطات شرفة المفاوضات بفيينا، ولقطات المفاوضين وهم يتبادلون الضحكات في قاعات تغص بالكاميرات، لا يمس حياة أي شعب. بدت البلدان مفرغة من الشعوب. فهل كان موسم الضحك بفيينا ضحكا على الشعوب؟
أصبحت الحقيقة، استنادا إلى الصور والعروض الإعلامية، جاهزة الصنع، تقول للعالم إن الفريق الإيراني المفاوض يمثل الشعب الإيراني، كما يمثل كيري الشعب الأمريكي، كما بقية الوفود. ولكن، هل هذه هي الحقيقة فعلا، أم أنها الحقيقة المصنعة لإيهام الشعوب بأن كل ما يحدث لصالحها، ومن أجلها، ومن قبل من يمثلها؟ ولأركز على الشعب الإيراني؛ لأنه، منذ سنوات، مركون في زاوية مظلمة لا يدخلها ضوء غير ضوء "المفاوضات" مع الشيطان الأكبر.
من الضروري أن نذكر بأن النظام الإيراني، حاله حال الأنظمة العربية، لا يمثل الشعب الإيراني بالضرورة، مهما قيل عن "ديمقراطية" الانتخابات، من قبل مناوئي الإدارة الأمريكية. ألسنا أبناء ديمقراطية الانتخابات في البلدان العربية؟
إن رطانة "مناهضة" الشيطان الأكبر، وتنظيم المسيرات الرسمية في ذكرى سنوية بعنوان "يوم القدس"، لا يجعل من النظام الإيراني الطائفي المستبد بولاية الفقيه الممثل لسلطة الإمام الغائب، والمؤسسات التي يهيمن عليها الفقهاء المعينون من المرشد الأعلى، أقل قمعا للشعب الإيراني من غيره، أي نظاما مختلفا عن أي نظام عربي آخر يعتاش على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ولا يجعله نظاما محررا للشعوب، مهما كانت أوهام اليسار العربي وتبريراته.
إن من يحرم شعبه من حرية التعبير وحرية العمل السياسي، وهما من الحقوق الأساسية التي لا غنى عنها في أي دولة، وفرض هيمنة مذهب ومعتقد ديني واحد لا يمكنه أن يحقق الحرية والكرامة للشعوب التي يطأها ببساطير جهازه القمعي المسمى الحرس الثوري.
إن حجة "مواصلة النضال ضد الغطرسة العالمية" كما يدعي مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي (وكالة أنباء فارس 12 تموز)، حتى بعد التفاوض والاتفاق مع أمريكا التي يصفها بانها "تمثل تجسيدا حقيقيا للغطرسة العالمية، ومواجهتها جزء من تعاليم القرآن ومبادئ الثورة"، باتت عارضا من عوارض الشيزوفرينيا وتدجيل الحق بالباطل أو في أحسن الأحوال: تكريس العنف المبرر الذي يستمد قوته من واقع الممارسات القروسطية.
لذلك يجب أن نحتفي بتوقيع
الاتفاق النووي، لسبب جوهري، لأنه سيؤدي إلى رفع الحصار عن الشعب الإيراني المخنوق مرتين، داخليا وخارجيا. إنه من يتلقى الضربات من جهتين. إن رمزية صور المفاوض الإيراني الضحوك، ليست موجهة إلى العالم "المتغطرس" فحسب، بل كانت موجهة أيضا إلى الشعب الإيراني للاستهلاك الداخلي، إلى أكثرية شرائح الشعب المسحوقة التي تعيش يوميات الحصار الاقتصادي ،المتبدية باستشراء الفساد وارتفاع الأسعار والبطالة، وانعكاسات ذلك من انتشار لاستخدام المخدرات وروح اليأس المستغلة بشعبوية الاستخدام الديني سياسيا.
إن فرحة الناس بالاتفاق هي الفرحة برفع الحصار المكرس للوضع الاقتصادي المتدهور، بالأمل في أن تنتهي حلقة الاستنزاف اليومي وممارسة الطغيان على الشعب باسمه، بتغليف حتى الهواء الذي يستنشقه الناس بورق تصدير "ثورة ولاية الفقيه" وتأسيس أحزاب تبشيرية باسم الله، وتصفية كل من يرونه معارضا لهذه السلطة الإلهية المتمثلة على الأرض بساسة لا يقلون رياء وزيفا عن أي سياسي، علماني، أمريكيا كان أم عربيا. فمن بديهيات الأمور أن تلجأ الأنظمة القمعية، الهشة داخليا، إلى ديمومة وجود العدو الخارجي لتغطية حرمانها الشعوب من الحريات، التي هي حق من حقوقها وليست منة يتم التفضل بها على الشعوب.
إن خطاب خامنئي الأخير بحضور طلاب وأساتذة الجامعات الإيرانية، يبين مساحة تدخل النظام في التعليم وإخضاعه لتعاليم "آية الله" المدعوم من القضاء الثوري وحرسه الثوري. فمن الذي يجرؤ على عصيان "حكومة الله" وعدم الانضمام إلى "حزب الله"؟ لمن يتجرأ، هناك الاعتقال والتعذيب والإعدام؛ إذ تشير منظمة العفو الدولية إلى أن ايران تحتل المرتبة الأولى في العالم، في تنفيذ أحكام الإعدام في السنين 2007 إلى 2012. فقد وثقت 1663 حالة إعدام، وهو ما يقارب أربعة أمثال الحالات في السعودية، أما تقرير المنظمة لعام 2014، فيسجل أن ايران والسعودية والعراق مسؤولة عن 95 بالمئة من مجموع الإعدامات بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وباحتساب عدد الإعدامات بالنسبة لعدد السكان، تحتل ايران الموقع الأول أيضا، متجاوزة السعودية والصين وحتى العراق، ذلك البلد الآخر الذي يتمدد فيه "روح الله". ولو أخذنا بالحسبان أن هذه الأرقام تأتي ثلاثين عاما بعد الفترة الثورية في ايران، حيث استتب الوضع الإسلامي لأصحابه، وتمت تصفية خصومه، يمكننا تصور حجم الإعدامات والتصفيات في العقود الثلاثة السابقة، سواء للتيارات الإسلامية، أو العلمانية، أو على اعتراضات على الفساد والقمع، وما يجري بموازاة هذه الأرقام المرعبة على مستوى الحياة اليومية للإيرانيين.
في تقريرها العالمي لعام 2015، قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية، "إنّ العناصر القمعية داخل قوات الأمن والاستخبارات والقضاء في إيران احتفظت بسلطات واسعة، وارتكبت انتهاكات جسيمة للحقوق خلال عام 2014. إذ صعّد المسؤولون حملتهم على المعارضة على شبكة الإنترنت، وأنزلت المحاكم الثورية عقوبات قاسية، بما في ذلك أحكام الإعدام ضد المدوّنين ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي.
أفادت التقارير أن المسؤولين أيضا استهدفوا العديد من النشطاء والشخصيات المعارضة البارزة، وتتعرض النساء والأقليات العرقية والدينية في إيران للتمييز في القانون والممارسة. وتُعتبر إيران أيضا واحدة من أكبر السجون للصحفيين والمدوّنين في العالم، وتحجب الحكومة أيضا بشكل منهجي المواقع الإلكترونية وتشوش بث الفضائيات الأجنبية.
ويقبع عشرات من النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان في السجن بسبب أنشطة سلمية أو مهنية". أو بتهم "المساس بالأمن القومي" و"الحرابة" و"الإفساد في الأرض".
إن المواطن الجائع، العاطل عن العمل، الذي لا يجد الدواء لنفسه وعائلته، خلافا لما هو متداول، لا يستطيع التفكير بتأسيس أحزاب معارضة أو الانضمام إلى ما هو موجود. إنه عاجز عن المبادرة والتفكير بما هو أبعد من يومه، وأقصى ما بإمكانه أن يفعله هو إلحاق الأذى بنفسه، انتحارا، كما فعل محمد البو عزيزي، في تونس، أو الحاق الأذى بنفسه والآخرين تفجيرا.
إن مساندة ودعم المواطن الإيراني ضروري اذا ما أريد له أن يثور على النظام الحاكم. إن رفع العقوبات الاقتصادية سيزيح عكاز التهديد الخارجي الذي يتوكأ عليه النظام ويتيح للشعب فرصة لجر النفس. وإذا كانت الأنظمة قادرة على خداع الشعوب، فإن ديمومة الخديعة لا تطول. ولا بد أن يثور الشعب على المستبد مهما كانت ادعاءاته إلهية أو ربوبية. والشعب الذي ثار على طغيان الشاه لن يعجز عن تغيير طغاة اليوم ليستعيد حريته وكرامته.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)