كتاب عربي 21

دوافع وتداعيات مقترح تقاسم النفوذ العسكري في "برقة"

السنوسي بسيكري
1300x600
1300x600
منذ العام الأول للثورة طُفت في بعض المدن في شرق البلاد وغربها وتحدثت في محاضرات عدة عن آفة "النزوع الجهوي والقبلي والتعصبي الفكري والسياسي" معتبرا إياها من أكبر التحديات التي توجه الانتقال وبناء الدولة وأشرت أن هذا النزوع كامن موجود وكشف عن نفسه وتمدد عندما رفع الغطاء الأمني عنه.

وعندما تحدث سيف الإسلام القذافي في الأيام الأولى للثورة عن مخاطر الاستمرار في الثورة وعدَد هذه الآفات، فإنه لم يكن خبيرا استراتيجيا أو كاهنا وعرافا، بل كان يتحدث بلسان الحاكم الملم بما يجري تحت كرسي حكمه، فنظام القذافي كان مدركا لهذه الظواهر وكان يتعامل معها بسياسة العصا والجزرة، ولم يكن معنيا بمعالجة هذه الآفات من جذورها، بل ربما تبني سياسة تكريسها لتكون إحدى صمامات الأمان وأدوات السيطرة والتوجيه.

وما إن أعلن  المجلس الانتقالي تحرير البلاد حتى أخذت هذه الظواهر في الطفو على السطح، وبدأ التدافع والشذ كل إلى طرفه واتجاهه، لتكون النتيجة، مع زيادة التدافع وقوة الشد، تمزيق ما هو متبقٍ من الدولة، وتوسيع رقعة النزوع الجهوي والقبلي والإيديولوجي، ليصبح المشهد السياسي حصيلة لمواقف وسلوك المكونات الجهوية والقبلية والإيديولوجية، ولتنحصر ثقافة الدولة والمجتمع المدني، حتى بات المثقف والمتعلم يدعو إلى العودة إلى توازنات ما قبل الاستقلال. 

القصد أن الظواهر الاجتماعية والسياسية السلبية والخطيرة، هي في علاقة عكسية مع الدولة ومع قيم المواطنة والعدل وسيادة القانون، فإذا تعزز وجود ودور الدولة تراجعت الظواهر، وإذا انهارات أو اضمحلت الدولة تضخمت الظواهر وملأت الفراغ، ولن يكون ملؤها للفراغ صحيحا ونافعا إلا استثناء وبشكل مؤقت، بمعنى أن تؤدي دور المخفف والملطف لتداعيات انهيار الدولة، وتدفع باتجاه بنائها وإعادة هيبتها، لا أن تفرض نفسها بديلا عنها.  

نقطة أخرى جوهرية تفسر تفشي ظاهرة النزوع الجهوي والقبلي ودعوة حتى المتعلمين والمثقفين إليها، هو بروز التشدد الديني وزحفه مستغلا تراجع نفوذ الدولة ومؤسساتها، فلقد شكل هذا العامل أحد أبرز أسباب تحولق قطاع واسع من الليبين حول جهوياتهم وقبائلهم، برغم قناعة الكثير منهم أن دور القبيلة يكون بمساندة الشرعية والدولة في ظروف الأزمات ولا يتعداه.

إذاً النزوع الجهوي والقبلي موجود ويتفاعل سلبا وإيجابا مع الواقع المحيط، ومن أبرز أسباب تضخمه الشعور بالخطر في ظل غياب أدوات التصدي له، دون أن نغفل مطامع بعض من يلعبون على وتر القبلية والجهوية لأسباب سياسية ولمصالح فئوية أو شخصية.

في هذا السياق ربما نحتاج أن نقرأ ونحلل خلاصات اجتماعات أبرز قبائل "برقة" الأيام القليلة الماضية، ودعوتها لتوجهات ذات طبيعة سيادية وهي اختصاص أصيل للسلطة الشرعية، التي تعترف بها تلك القبائل وهي البرلمان والحكومة ورئاسة الأركان. 

فما كان ليتحدث مشائخ قبائل داعمة للبرلمان وللحكومة ولعملية الكرامة وعرابها خليفة حفتر، لولا الشعور بأن البرلمان والكرامة في حالة ضعف ونفوذهما إلى اضمحلال، وما كان ممكنا حديثهم جهرة عن تقسيم نفوذ بين خليفة حفتر وفرج البرعصي، لو أن البرلمان والحكومة بسطا نفوذهما وفرضا الأمن والاستقرار في المنطقة الشرقية، أو أن حفتر قضى على "الإرهاب" في بنغازي كما هو الاعتقاد السائد لدى أنصار الكرامة.

القبائل الكبيرة في برقة "الحرابي" ربما يرون اليوم أنه لا مستقبل للكرامة بعد ما يزيد عن عام من القتال، الذي كانت نتائجه كارثية على المنطقة الشرقية بشكل عام وبنغازي بشكل خاص، وأن النتائج الخطيرة لعملية الكرامة في بنغازي هي مسؤولية حفتر، ولهذا اقترحوا أن يكون نفوذه عليها وعلى المناطق القريبة منها شرقا وغربا، وليسند لفرج البرعصي النفوذ العسكري لمناطق الجبل الأخضر والبطنان، التي يشكل الحرابي أغلبية قاطنيها، ومشاكلها الأمنية أقل تعقيدا. 

أما عن نتائج المقترح أقول إنه لا يمكن أن يكون سبيلا لجلب الاستقرار والوئام لبرقة، فالتقسيم يستدعي تاريخا قبليا لن يكون إيجابيا إحياؤه، ويهيل التراب على الأزمة وعلى أسبابها الحقيقية (سياسة ردم المشاكل)، ولا يتصدي بحكمة وشجاعة لعلاجها من خلال مراجعة صادقة لحصاد عام من الكرامة والاتجاه إلى مقاربة سلمية شاملة، وأولى منزلقات الاقتراح أنه يمهد الطريق للقضاء على فكرة بناء الدولة وتعزيز مكانتها، وينزل بالمصالح إلى دائرة القبيلة وليس الدولة أو حتى الإقليم.
التعليقات (0)