ابتدرنا هذه التأملات بحديث عن حركة الإخوان المسلمين في الأردن، وانقلاب النظام عليها بعد طول تحالف، في إطار تحول بين الأنظمة الملكية العربية ضد حركات استغنت عنها بعد أن صارت عبئا بعد أن كانت سندا. ويلقي الخلاف القائم بين السلطة والحركات في الأردن وغيره ضوءا كاشفا على طبيعة السلطة في الدولة الحديثة من جهة، وعلى طبيعة ومنهج ومصدر سلطة الحركات من جهة أخرى.
فقد جاء التوافق بين الحركات الإسلامية والأنظمة الملكية التقليدية على خلفية التهديد المشترك من الحركات اليسارية والقومية الراديكالية. فقد ناصبت الأنظمة الراديكالية الإسلاميين العداء، وفتكت بهم وشردتهم في البلاد، كما هددت في إبان صعودها وجود الملكيات القائمة.
ولم تكن لهذه الأخيرة ذخيرة من فكر ولا عدة من سند جماهيري، ولا كوادر إدارية سياسية تنازل بها التيارات الراديكالية الصاعدة والمدعومة من المعسكر الشرقي، فارتمت في أحضان الغرب، واستعانت بكوادر الإسلاميين تنافح عنها في ميادين الفكر والإعلام والسياسة، وتعينها في إدارة دولها.
كانت هذه الصفقة مفيدة للطرفين، ولكن كلفتها على الإسلاميين كانت الأعلى، بسبب الاضطرار إلى السكوت عن كثير من الأمور، والرضا بدور تابع يخدم ولا يشرك في الأمر.
ومثل هذه المداهنة باهظة الثمن على أي حركة سياسية، خاصة إذا تطاول زمانها، وعظم أمر ما وجب الصمت عليه من مختلط الأمور. ولعل الثمن الأفدح لهذه الصفقة كان على حساب التطور السياسي والفكري لهذه الحركات التي بقيت لعقود أشبه بنبات الظل، لا يجد حظه من الشمس والهواء الطلق، فيذبل ويتعطل نموه. ذلك أن هذه الحركات لم يكن لها وجود شرعي في معظم دول الخليج، ما عدا استثناءات جزئية في البحرين والكويت والأردن، هي أقرب إلى القاعدة، لأنه لم يسمح في هذه الدول إلا بالوجود والعمل كـ "جمعيات" منزوعة السياسة.
يذكرنا هذا بأن هذه التنظيمات كائنات عضوية ترتبط بمحيطها برباط المصالح والمشتركات الثقافية والاجتماعية والسياسية، وتحتاج لتتغذى من بيئتها لتعيش. وفي الحالة الأردنية، كانت القضية الفلسطينية هي موضع الالتقاء مع النظام، ثم أصبحت موضع الافتراق.
ففي بداية الأمر، احتج الإخوان بحجة معاوية لعمر حين وصف الشام بأنه "دولة مواجهة" مع الروم، يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها "لزوم الممانعة". فقالوا إن الأردن دولة مواجهة مع العدو، ينبغي الابتعاد فيها عن الصراعات التي قد تهدد الكيان، فترك فيها للنظام الحبل على الغارب. بل إن قائلهم أفتى بعدم جواز الجهاد في فلسطين حتى تقوم دولة إسلامية تعلن الجهاد، ما أجل مشاركة الإسلاميين في فلسطين عقدين من الزمان بعد تفجر الثورة الفلسطينية.
ولكن عندما نشأت حماس تحت ضغط الظروف الداخلية، تغيرت الفتوى إلى وجوب الجهاد في فلسطين، وأولويته على ما سواه. ثم جاءت اتفاقية وادي عربة، فكانت القشة التي قصمت ظهر بعير التوافق مع النظام.
ورغم أن حركة الإخوان في الأردن اتبعت سنة
الحركة الأم في مصر التي أنكرت اتفاقية كامب دايفيد باللسان، دون أن تكف عن التعاون مع النظام المصري وقبول شرعيته، إلا أن النظام في الحالين اتخذ الحركات عدوا، خاصة بعدما شوهد من ازدياد شعبية الحركات في البلدين. وهذه شعبية ما كان ينبغي للحركات أن تلام عليها، كما أنه لم يكن لهما فيهما فضل إلا قليلا.
جاءت شعبية الإسلاميين في مصر والأردن من إفلاس اليسار والحركات العلمانية عموما، من ليبرالية وقومية، حيث أفلست الأولى لممالأتها الاستعمار ثم النخب الحاكمة المرتبطة بالغرب، وبعدها عن عامة الشعب، ما مهد الطريق للحركات الراديكالية. أما هذه الأخيرة فقد فقدت كل رصيد بممارساتها البغيضة والفاشلة في الحكم، ثم بانكسارها أمام العدو، وردتها نحو ما هو أسوأ من سابقيها من ارتهان للخارج وفشل في الداخل. ثم جاء صعود التدين بعوامل داخلية وإقليمية وعالمية، فاستفادت منه تلك الحركات كذلك.
إلا أن المعضلة الحقيقية بقيت في عجز هذه الحركات عن استثمار شعبيتها، بسبب ضعف نموها السياسي والفكري للأسباب التي أسلفنا، وباستمرارها في ممالأة الأنظمة. وبالتالي لم تطرح هذه الحركات مشاريع طموحة للتغيير وتولي الحكم، بل كان جل طموحها أن يسمح لها بالعمل السياسي تحت مظلة الأنظمة القائمة.
وقد خلق هذا بدوره معضلة، وهو أن هذه الحركات كانت تعمل وتتصرف كجمعيات أو منظمات مدنية. إلا أن شعبيتها الكاسحة غير المكتسبة ظلت تدفعها بالضرورة إلى حكم لم تكن مستعدة له، بسبب افتقادها الواقعية في التعامل مع بيئتها، حيث ظلت تخاطب الناس بمثاليات تعرف قبل غيرها صعوبة تحققها في الواقع.
ومن هنا أصبحت هذه الحركات خطرا على نفسها وعلى المجتمع، خاصة حين تدفعها تيارات تشبه الموج أو الريح، دون رغبة منها أو قدرة، إلى سدة الحكم، أو توشك، كما حدث في الجزائر في عام 1991، وكاد في تونس في 1987، وفي الأردن في عام 1989، ثم في فلسطين في 2006، فمصر في 2012.
وفي كل هذه الأحوال كان الأمر أشبه بكارثة طبيعية من زلزال أو طوفان، منه بعمل سياسي مخطط. فقد فوجئت الحركات قبل غيرها بهذه النتائج، وارتبكت أكثر من غيرها بها.
ولا يقل أهمية ما كشف عنه الاكتساح الشعبي لهذه الحركات عن مكمن القوة في هذه المجتمعات. فعندما حازت حماس الأغلبية الكاسحة في انتخابات عام 2006، كان نصرها بالهزيمة أشبه. فقد كانت حماس "المنتصرة" تتوسل إلى كل الأحزاب "المهزومة" أن تشاركها الحكم، فلم يقبل أضعف الأحزاب الدخول معها في ائتلاف، وتحاشاها الجميع.
وربما كانت حماس في وضع خاص، لأنها لا تتحكم في دولة مستقلة، فهي وشعبها في قبضة الاحتلال، ومهمة ما يسمى بالسلطة الوطنية الفلسطينية هو مساعدة الاحتلال وتخفيف أعبائه، كما كان الحال في سابق عهد الاستعمار. ولكن هذا لم يمنع المرشد العام لإخوان مصر بضرب مأزق حماس -مثلا- حين تخوف من أن تواجه بلاده مصير غزة لو انتخبت رئيسا من الإخوان.
ولم يصب المرشد فيما قال، لأن مصر هي، بخلاف غزة، دولة مستقلة، أو هكذا نعتقد. ولكن حركة الإخوان مع ذلك واجهت استحالة في إقناع أي شخص من خارجها بالترشح تحت رايتها. وهذا من العجب العجاب، أن تبذل رئاسة الجمهورية لمن لم يحلم بها، فيرفض! وعندما انتخب الرئيس الإخواني، واجه عزلة كبيرة، وإن كان السبب الأساسي في هذا هو رفض الإخوان لعروض الائتلاف. وقد عرف الإخوان بعد ذلك من بيده القوة، وأنه ليس الشعب في مصر، وإنما الانكشارية الجدد.
بالطبع، يمكن للحركات الإسلامية أن تحشد عناصر قوة خاصة بها، وتحتكر السلطة عنوة، كما فعلت حماس في حسمها عام 2007، وكما سبقها من قبل إسلاميو السودان بانقلاب 1989، وسبقهما الإيرانيون بولاية الفقيه. ولكن هذا لم يغير من المعادلة إلا قليلا. فقد حوصرت غزة ومن فيها، وتعرض السودان لشيء من ذلك. وها هي إيران اليوم، وبعد قرابة أربعة عقود من ثورتها، تحتفل برضا "الشيطان الأكبر" عنها، وترى في خضوعها لبيت الطاعة، وقبولها بعدوان على سيادتها عبر التفتيش والمراقبة الدائمة، فتحا مبينا. بنفس القدر، يحتفل النظام السوداني اليوم بلفتة رضا من النظام الانقلابي المصري المفتقر إلى الشرعية، وأنظمة أخرى طالما يدعو أن "قد دنا عذابها". ومن يسمع خطاب السياسة في السودان، يختلط عليه الأمر في من هي المعارضة ومن الحكومة.
وهذا يطرح لغز حقيقة مصادر السلطة والقوة في عالمنا المعاصر، الذي لم يتخط مرحلة الاستعمار بعد..
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)