هل تذكرون قصة «جرة اللبن» الضخمة التي اتفق فقراء قرية صغيرة أن يهدوها للسلطان، واتفق حكماء القرية على أن يضعوا الجرة في غرفة مظلمة يدخل إليها كل واحد ليضع مقدارا من اللبن يتناسب مع ما يملكه، دون أن يراه الآخرون؛ تجنبا للخجل أو التفاخر، وفكر واحد أن يضع كوبا من
الماء بدلا من اللبن، ظنا أنه لن ينكشف، لكن الباقين فكروا في الغش مثله، وكانت النتيجة مهزلة؛ حيث ظهر أن الجرة امتلأت بالماء، وأن كارثة الفقر في القرية أساسها سوء الضمائر ونزعة الغش.
نهاية القصة ليست مهمة، فما حدث زمان يحدث في كل عصر وأوان، لكننا نعيشه الآن أكثر من أي وقت كان.
فحين تقرأ الجرائد وتتابع تصريحات الحكومة وتعليقات الأحزاب تشعر أنك أمام سلوك واحد وظروف مختلفة، فالأحزاب تحسد الحكومة على الهنا الذى تعيشه، ويتمنون بصورة أو بأخرى، نفس المزايا والعطايا التي تنعم بها حاشية
السلطان.
الفساد الذي نلعنه كل حين والوساطة التي نطالب بالتوقف عن الأخذ بها نسعى جميعا إليها لو سنحت لنا فرصة. وكما قال أحد الأصدقاء حين سألته عن رأيه فيما يجري في البلاد فرد مبتسما: «أنا شريف لأنني لم أختبر».
أعرف أستاذا في كلية الطب استغل موقعه ليستخرج لابنه تقريرا طبيا خطيرا أدى إلى ضياع مستقبل شاب اسمه عمرو، حيث حكم عليه بـ15 سنة سجنا في مشاجرة عادية إثر خلاف أقل من عادي على حديقة مسكن.
الطبيب الذي يعلم أجيالا تمادى في الغطرسة، وعاد ليساوم عائلة الشاب لكي يدفعوا 300 ألف جنيه مقابل التصالح، ولا أدري طبعا سر تحديد هذا المبلغ الضخم إلا أنه استغلال وجشع، كما لا أدري كيف مر على السلطات أن ابن الطبيب الذي أصيب بعاهات مستديمة بنسبة 60% في العين والمخ مما يعوق التحصيل والفهم كما جاء في التقرير أستطاع بقدرة قادر أن يدخل امتحان نهائي كلية الطب بعد شهر واحد من التقرير ويتخرج بتقدير جيد جدا!!، فأيهما يا ترى المزور.. التقرير أم شهادة نجل الدكتور؟
وسط هذا العجب تذكرت ما حدث في غزوة أحد التي انهزم فيها المسلمون بعد انتصارهم في بدر وفي حضرة نبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، وأدركت أن الجري وراء المغانم يعمي العيون عن الأهداف، ويبعد الإنسان عن الأخلاق، فحين انشغل المسلمون بما ينشغل به الآخرون فقدوا ما يميزهم وأصبحوا مثل غيرهم، وهنا تفقد الفئة القليلة ميزتها، وتصبح الغلبة لصاحب الحيلة والخدعة، وليس لصاحب الحق، فالله يكفي عباده حين تمتلئ قلوبهم بالإيمان بقدرة الله وعونه.
اتصلت بعمرو الشاب الضحية، ووجدت ما خشيته، لقد بدأ يفكر في نفس الطريق الذي سلكه غريمه، بحث عن واسطة وفكر في رشوة، وبحث عن «كفيل» في وطن يرفع شعار «البقاء للأفسد»، فإذا كان القانون قد أدى به إلى السجن، فإن الطرق الملتوية هي سبيله للحرية، على حد تعبيره.
أقول لعمرو ولكل شاب مثله في بلدنا يشعر أننا نعيش زمنا فاسدا لا رجاء منه ولا عدل فيه: لا تيأس؛ فنحن الآن أحوج من أي وقت مضى للاحتماء بالأخلاق والمبادئ، لا تجعل الوجع يقف حائلا بينك وبين ثقتك بعدالة السماء، وتأكد أن هذه الثقة في الله ستجعل لوجودك قيمة ولروحك معنى.. لا تنكسر ولا تنهزم ولا تضع أنت أيضا كوبا من الماء في جرة السلطان، لا تلعن الغش في الجهر، ثم تغش في السر، وتأكد أن
دولة الظلم ساعة، ومهما طالت ستزول.. وأن الحق أقوى وأبقى من غطرسة الظالمين.
(نقلا عن صحيفة المصري اليوم)