لعل حوادث تلوث مياه نهر النيل ليست بالجديدة حيث كان أحدثها غرق "صندل نهري" تابع للقوات المسلحة يحمل على متنه حاوية تحتوي على 500 طن من مادة الفوسفات الصخري، والتي استقرت بكاملها في قاع النيل لتزيد من نسبة تلوث النهر العالية أصلا. ورغم كل التطمينات التي أطلقتها الحكومة عن عدم تأثر مياه النهر بمادة الفوسفات بحسب بيان مدير الشركة القابضة لمياه الشرب وأنه لا داعي لتهويل الأمر حيث إن الحكومة قامت بمعالجته، إلا أن حالات التسمم نتيجة شرب المياه الملوثة بدأت بالظهور، وكان أولها في مدينة الإبراهيمية التابعة لمحافظة الشرقية. ورغم وجود القانون رقم 48 لسنة 1982 في الدستور المصري الذي يجرم ويعاقب أي جهة تتسب بتلويث مياه النيل والذي تم مؤخرا تعديله لتغليظ العقوبة إلا أن هذا القانون لم يستطع المساس بالمتسبب الحقيقي وراء هذا الحادث، ألا وهي المؤسسة العسكرية. ولم تتجرأ أي جهة أمنية بالبحث والتحقيق في ملابسات الحادث كون البحث في أي نشاط يقوم به الجيش المصري يعد مساسا بالأمن القومي ويعتبر من أسرار الدولة التي لا يحق لأحد الاطلاع عليها.
إن المؤسسة العسكرية أو إمبراطورية الجنرالات والتي تتحكم بما يزيد عن 40% من الاقتصاد المصري عملت ومنذ تولي العسكر للحكم بعد ثورة 1952 بالسيطرة على جميع القطاعات التجارية والصناعية تحت مسمى التأميم والاشتراكية، لتنتقل إدارة هذه المؤسسات لجنرالات لا يفقهون في إدارة الأموال شيئا مما انعكس على خسائر القطاع العام كونه يدار من عقول لا تفقه إلا في شؤون الحرب.
جاءت المعونة الأمريكية التي تم الاتفاق عليها بعد معاهدة كامب ديفيد الموقعة بين مصر وإسرائيل لتنعش خزينة الجيش والتي انقسمت إلى جزئين جزء يترجم بمساعدات عسكرية وأسلحة، والجزء الآخر عبارة عن مساعدات اقتصادية حيث قامت المؤسسة العسكرية وعلى مدى العقود الماضية على استثمار هذه الأموال ومضاعفتها عبر إنشاء المشاريع "القومية" ومشاريع البنى التحتية، والتي كانت غالبا ما تعود بالفائدة على قيادات هذه المؤسسة، فيما كانت تقدم لهم التسهيلات والإعفاءات الضريبة لهذه المشاريع من قبل الحكومات المتعاقبة وبتوجيهات من الرئيس، كون أن رؤساء مصر منذ عبد الناصر هم أبناء المؤسسة العسكرية وخرجوا من تحت عباءتها.
وكمثال على هذه المشاريع، مشروع إنتاج عبوات المياه المعدنية تحت المسمى التجاري "صافي" وبعيدا عن كون اسم هذا المنتج هو من اختيار وزير الإنتاج الحربي ومدير جهاز مشروعات الخدمة الوطنية السابق سيد مشعل، وهو الجهاز المنوط به إدارة مشاريع المؤسسة العسكرية والذي استلهم اسم المياه المعدنية من اسم ابنته كتكريس لسيطرة الجيش واعتبار رجالاته للمشاريع الوطنية القومية مشاريع خاصة بهم، ومن حقهم إدارتها كيفما شاءوا وبالعودة للمياه المعدنية فقد اجتاحت مياه "صافي" الأسواق بعد أن غاص الجيش "بصندله" الفوسفاتي في مياه النيل حيث تقول التقديرات إن نسبة مبيعات المياه المعدنية ارتفعت بنسبة 50% بعد الهلع والتخوف الذي أصاب الكثيرين من وجود تلوث حقيقي في مياه الشرب وعدم ثقتهم بتطمينات الحكومة، لترتفع بذلك مبيعات منتج الجيش بسبب مشكلة كان هو خلفها.
إن المؤسسة العسكرية التي تحكم مصر منذ عقود عندما استشعرت بأن رئيسا مدنيا قد وصل إلى سدة الحكم، ومن الممكن أن يمس مكاسبها وقلاعها التي عملت على بنائها طوال عشرات السنين لم تألُ جهدا في الانقلاب عليه وإزاحته وتنصيب شخص من صفوفها يحمي مصالحها ويبقي على سيطرتها على مفاصل الدولة الاقتصادية. فهي ضد أي مشروع نهضوي تنموي يعيد الحق لأصحابه أو يوزع الثروة بشكل عادل على فئات الشعب المختلفة، وضد أي استثمار أجنبي أو محلي ما لم تكن شريكا فيه. فكان مشهد ممثلي الجيش وضباطه لا يغيب عن أي احتفالية لتوقيع اتفاقية أي مشروع قومي كمشروع المليون وحدة سكنية ومشروع تفريعة قناة السويس الجديدة، وذلك لإيصال رسالة للشعب المصري بأن العسكر هم الحكام الفعليون وأنهم مستعدون لفعل أي شيء واستخدام أي نوع من القوة للدفاع عن مكاسبهم تلك. ولعل جملة اللواء ممدوح شاهين في تسريبات مكتب السيسي حين قال "البلد بلدنا والورق ورقنا والدفاتر دفاترنا" تختزل المشهد برمته.