زاوجت الثورة
التونسية في عناوينها بين المطالب الاجتماعية والتوق نحو تثبيت الحريات السياسية والمدنية، ورغم المنجز السياسي المتمثل في نظام سياسي جديد قائم على دستور يحمي الحريات وأسس لقواعد الديمقراطية السليمة، ظل الاجتماع السياسي التونسي عاجزا عن تحقيق المطلب الاجتماعي للثورة.
وكسائر بلدان المعمورة، تحتفل تونس بعيد
العمال، ولكن في مشهد تملؤه التناقضات: بطالة مستفحلة وتراجع لإنتاجية العمال، بالإضافة لتراجع القدرة الشرائية، ما سبب احتقانا اجتماعيا بات ينذر بالانفجار.
ملف زيادة الأجور في القطاع العام
ورغم الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به البلاد، واصل الاتحاد العام التونسي للشغل (المنظمة النقابية)، ضغطه من أجل فرض زيادة في
الأجور لموظفي القطاع العام، خاصة وأن الحكومة السابقة برئاسة مهدي جمعة (الحكومة التي أعدّت للانتخابات الأخيرة بعد تخلّي حركة النهضة عن الحكم)، رفضت أن تخوض في هذا الملف باعتبارها حكومة انتقالية.
ورغم التباين بين مطالب الاتحاد ومقترحات الحكومة، توصل الطرفان، بعد شهرين من التفاوض حول الزيادة العامة في الأجور، الخميس، إلى التوقيع على اتفاق ينص على زيادة عامة موحدة بداية من كانون الثاني/ يناير 2015، لمصلحة جميع الموظفين العموميين، بمختلف الأسلاك والرتب والأصناف. وقد حددت الزيادة بـ50 دينارا في الوظيفة العمومية، في حين تم إقرار زيادة لموظفي المؤسسات والمنشآت العمومية بمختلف أسلاكها من تأطير وتسيير وتنفيذ بـ70 دينارا.
كما تم التوقيع على البلاغ المشترك حول المفاوضات الاجتماعية بقطاعي الوظيفة العمومية والمنشآت والمؤسسات العمومية، حيث عبر الطرفان عن حرصهما على ضمان الحفاظ على المقدرة الشرائية والعيش الكريم للموظفين والأعوان، وعن تمسك الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل بقيم الحوار والوفاق، التي أسست عليها العلاقات بين الأطراف الاجتماعية.
وقد اتفق الطرفان على فتح جولة جديدة للمفاوضات الاجتماعية في جانبيها المالي والترتيبي بقطاعي الوظيفة العمومية والقطاع العام لسنتي 2015 و2016. وتنطلق المفاوضات بداية من توقيع هذا الاتفاق مع السعي لإنهائها قبل مطلع شهر حزيران/ يونيو 2015، بحسب نص البلاغ.
ورغم أن الوصول إلى اتفاق في حد ذاته يعد خطوة إيجابية بنظر مراقبين، إلا أن ردود فعل الموظفين، التي رصدها "عربي21" على الصفحة الرسمية للمنظمة الشغيلة على الفيسبوك، كانت في أغلبها غير مرحبة بقيمة الزيادة، باعتبار أنها لا توازي حجم التضخم وتراجع المقدرة الشرائية للموظفين، بحسب تعبير المعلقين.
العباسي يوجه جملة من الرسائل
وككل سنة، نظم الاتحاد العام التونسي للشغل، صباح الجمعة، موكبا للاحتفال باليوم العالمي للعمال، حضره مسؤولو الدولة التونسية، وألقى فيه الأمين العام للمنظمة الشغيلة كلمة تجاوزت البروتوكول المعهود لتحمل جملة من الرسائل.
فقد جاء في كلمة العباسي أن الاتفاق المبرم مع الحكومة بعنوان الزيادة في الأجور لموظفي القطاع العام، تمت فيه مراعاة الوضع الحرج للبلاد، وأنه ألا يحمل العامل وحده كلفة هذه الأزمة، ومؤكدا أنه أصبح لزاما على الدولة مواجهة "رأس المال الطفيلي المتواكل والمضارب"، في إشارة لرجال الأعمال المتهربين من دفع الضرائب.
وقال أيضا: " كلّ أملنا أن تكون الجولة القادمة من المفاوضات الاجتماعية بعنوان سنتي 2015/2016 في جانبيها الترتيبي والمالي، التي ستنطلق قريبا، أكثر إنصافا وأن تسوسها روح المسؤولية والجدية، وأن تراعي التضحيات التي ما انفكّ يقدّمها العمّال على امتداد السنوات الأربع الأخيرة، وأن ترفق خاصّة بتعهّدات ملزمة لتطبيق ما يحصل من اتفاقات وتفاهمات".
توتر حاد بين العمال والأعراف
وفي الحقيقة، لم تكن الإشارة إلى رأس المال في كلمة العباسي في منأى عن واقع العلاقة المتوتّرة، بين منظمة العمال ومنظمة الأعراف (الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية).
وانطلق هذا التوتر مع تصريح صحفي للعباسي قال فيه إن عددا كبيرا من رجال الأعمال في تونس يسكنون برجهم العاجي في منظمة الأعراف، ويسعون لخصخصة كل مؤسسات الدولة، ليدعموا أكثر منطق استغلال العمال. وقال أيضا إن أغلبهم يرى في تونس فقط مكان سكن، ويشغل أمواله خارجها، مستفيدين من الكم الهائل من الامتيازات وخاصة فساد القوانين.
وهذا ما أثار حفيظة منظمة الأعراف التي استنكرت هذه التصريحات من خلال بيان أصدرته يوم الأربعاء، عبرت فيه من خلاله عن "بالغ استيائها" مما تضمنته التصريحات "من مغالطات ومن تهجمات مجانية"، حسب تعبيرها.
وقالت وداد بوشماوي، رئيسة منظمة الأعراف في تصريح إذاعي لإذاعة "شمس أف أم" الأربعاء، إنه "لا يحق لأي شخص أن يقدم لنا دروسا، وغير مسموح لأي شخص أن يزايد على وطنيتنا"، مشيرة إلى أن ما أثر في أنفس "الأعراف" هو أن تصريحات العباسي كانت في موقع غير تونسي. وقالت إنه إذا وُجد انزعاج فباب التواصل والحوار موجود بين الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والمنظمة الشغيلة.
وفي السياق ذاته، قال رئيس اللجنة الاجتماعية بمنظمة الأعراف، خليل الغرياني، إنّ المنظمة ترفض منطق الزيادة في الأجور في الوقت الحالي، نظرا لتراجع الإنتاج والإنتاجية، وباعتبار أنهم يحتكمون إلى المؤسسات والقوانين، ولا ينطلقون في المفاوضات من الحوارات الإعلامية ومطالب عالقة، حسب حواره مع جريدة المغرب.
ويأتي تصريح الغرياني في فترة يطالب فيها الاتحاد العام التونسي للشغل، بالانطلاق في مفاوضات زيادة أجور القطاع الخاص.
ووصف الأمين العام المساعد باتحاد الشغل المكلف بالقطاع الخاص، بلقاسم العياري، تصريح الغرياني بالتصريح اللامسؤول، وقال إن القدرة الشرائية لموظفي القطاع الخاص تدهورت كثيرا.
وذكر العياري في السياق ذاته بأنّه منذ سنة 2013 لم تتم زيادة للعاملين بهذا القطاع، حسب ما صرح به لإذاعة "موزاييك إف إم"، صباح الجمعة.
خميس أسود جديد في الأفق؟
ويرى مراقبون أن تونس اليوم سائرة نحو تجاذب ثلاثي، بين كل من الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف، نظرا لأن الوضع الاقتصادي التونسي وعجز الموازنات لن يترك للدولة التونسية فرصة لإقرار زيادة أخرى "أكثر إنصافا" لموظفي القطاع العام، كما ينتظر العباسي، وهو ما قد يفجر حركة احتجاجية واسعة بهدف الضغط على حكومة لم تبدأ بعد في الفعل.
من جهة أخرى، وبالنظر إلى توتر العلاقة بين المنظمة الشغيلة ومنظمة الأعراف، يبدو أن المفاوضات الاجتماعية حول الزيادة في الأجور لعملة القطاع الخاص لن تكون يسيرة.
كل هذا يمكن أن ينبئ باحتقان اجتماعي متزايد قد يفضي إلى ما أفضى إليه ذات خميس بتاريخ 26 حزيران/ يونيو 1978، حين شهدت تونس صدامات عنيفة بين الطبقة الشغيلة يقودها
اتحاد الشغل، ونظام الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، وهي صدامات عصفت بالبلاد وأودت بحياة العديد من التونسيين.