إن الذين يحملون تراثنا الإسلامي - الصوفي أو السلفي - مسئولية القول بالتعارض بين "
العقل" و"
النقل" إنما يتفقون - دون أن يشعروا - مع المتغربين الذين رأوا هذا التعارض في تراث الحضارة الغربية، فنقلوه - دون وعي - إلى ثقافتنا، ونسبوه إلى تراث الإسلام!.
إن العقلانية الإسلامية - هي في حقيقتها - نابعة من النقل الإسلامي - من القرآن الكريم – الذي هو معجزة عقلية، توجهت بالخطاب إلى الذين يعقلون ويتدبرون ويتفكرون ويفقهون ويتذكرون.
ولقد تحدث القرآن الكريم عن العقل ومرادفاته في ما يقرب من ثلثمائة آية.. وشاع الاحتجاج بالمنطق العقلي والعقلانية المنطقية في كل سور القرآن الكريم، بل لقد حدثنا عن أن الذين تنكروا للعقل وأهملوا براهينه قد قادهم ذلك إلى الحجيم، "وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير" (الملك:10،11)، فإهمال العقل والعقلانية ذنب يقود أصحابه إلى جنهم وبئس المصير!.
ولم يعرف تاريخ الإسلام من انحاز إلى العقل وحده دون النقل، ولا من اتخذ الموقف المضاد.. كما لم يعرف هذا التاريخ من قدم العقل على النقل تقديم أهمية وتشريف.. وإنما أقصى ما قال به البعض أنه تقدم تقديم ترتيب، كما تتقدم "الأدوات" على "الموضوعات" و"الوسائل" على "المقاصد".. فالنقل - في ثراث الإسلام - هو المطلق والكلي والمحيط.. بينما العقل - على عظمته وأهميته - نسبى الإدراك، معارفه كسبية وجزئية وسبقتها جهل، ككل ملكات الإنسان.
ولقد اجتمعت مذاهب الإسلام الكبرى والمعتبرة على أن أصول الأحكام أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل.. فالجميع يفقهون النقل بالعقل ثم يحكمون العقل بالنقل، الذي يأتي من نبأ الغيب وحقائق الإلهيات بما لا يستقل العقل بإدراكه، ولا تستطيع اللغة البشرية أن تعبر عن جوهره وكنهه مآلاته.. ففي عالم الشهادة السيادة للعقل مطلقة، أما في عالم الغيب والألوهية فإن هناك مناطق يقف العقل دون سرادق عزتها، ويستعين عليها بما ضرب النقل لها من الأمثال التي تقرب التصورات إلى العقول.
وعندما تتعارض ظواهر بعض النصوص مع براهين العقول، يكون هناك "التأويل" لهذه الظواهر، وهو تأويل لا يستبدل العقل بالنقل، وإنما يجمع بينهما - كما أكد على ذلك الفيلسوف ابن رشد (520 – 595 هـ، 1126 – 1198م) لأن الحق الذي جاء به النقل الصحيح لا يمكن أن يضاد الحق الذي جاء به العقل الصريح.
ولقد عبر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1266 – 1353 هـ، 1849 – 1905م) عن هذا الموقف الجامع بين العقل والنقل، والمتوازن في العلاقة بينهما، فقال: "إن الإنسان كون عقلي، سلطان وجوده العقل، والعقل هو الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل، وهو جوهر إنسانية الإنسان، وأفضل القوى الإنسانية على الحقيقة، بل هو قوة القوى الإنسانية وعمادها، والكون جميعه صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه، وكل ما يقرأ فيه فهو هداية إلى الله وسبيل الوصول إليه، ولقد تآخي العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدس - (القرآن) - على لسان نبي مرسل بتصريح لا يقبل التأويل، وتقرر بين المسلمين كافة أن أول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي الذي هو وسيلة الإيمان الصحيح.
لكن العقل البشري وحده ليس في استطاعته أن يبلغ بصاحبه ما فيه من سعادته في هذه الحياة، لأن غاية ما ينتهي إليه كماله إنما هو الوصول إلى معرفة عوارض الكائنات التي تقع تحت الإدارك الإنساني، أما الوصول إلى كنه حقيقته فمما لا تبلغه قوته، ومن أحوال الحياة الأخرى ما لا يمكن لعقل بشري أن يصل إليه وحده، لهذا كان العقل محتاجا إلى معين يستعين به في وسائل السعادة في الدنيا والآخرة، فالعقل هو ينبوع اليقين في الإيمان بالله، وعلمه وقدرته، والتصديق بالرسالة، أما النقل فهو الينبوع فيما بعد ذلك من علم الغيب، كأحوال الآخرة والعبادات، ولذلك منح الله الإنسان أربع هدايات يتوصل بها لسعادته، هداية الحواس وهداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري وهداية العقل - التي هي أعلى من هداية الحس والإلهام، وهداية الدين - التي تضبط وتصحح وتكمل أخطاء ونواقص غيرها من الهدايات.
وبهذا تتكامل - في المعرفة الإسلامية - هدايات: العقل والنقل والتجربة والوجدان، وبهذا - أيضا - تتميز القضية - في ثقافتنا - عن غيرها من الثقافات.