تستمر صور المعتقلين الذين لقوا حتفهم تحت التعذيب بالتدفق يوما بعد يوم، لكن الحدث الأبرز في الأيام الأخيرة كان نشر صور لسيدة قضت تحت التعذيب، وهياكل عظمية لأطفال لقوا حتفهم أيضا.
من يمعن النظر في هذه الصور يلاحظ أن الكثير منهم قتلوا فوراً بعد اعتقالهم، ويتبيّن ذلك من وجوههم أو أجسادهم التي يبدو أنها حافظت بعض الشيء على أشكالها، دون أن يطرأ عليها التغيرات التي اعتدنا مشاهدتها على أجساد المعتقلين، في حين أن صور الأطفال كان غالباً يظهر عليها نحول شديد في الجسم نتيجة الجوع، أما السيدة التي كانت ملقاة جثة هامدة، فلها حكاية أخرى.
لم تتوان فروع التحقيق التابعة لنظام بشار الأسد عن ممارسة وحشيتها بحق
النساء، كما مارستها بحق الرجال، وهذا ما تحكيه لنا السيدة "هنادي" في حديث خاص لـ"عربي21".
هنادي معتقلة سابقة، اعتقلها النظام في أواخر 2012، عندما اختفت فجأة من حيها في دمشق، إذ تم اقتيادها من أحد الحواجز هناك، حتى ظنّ أهلها أن هنادي اختفت أو ماتت. لكنها خرجت منذ ثلاثة شهور، لتكون شاهدة على المجازر التي تتم بالخفاء في معتقلات النظام السوري.
تقول هنادي لـ"عربي21": اعتقلت في أواخر 2012، وبعد خروجي من المعتقل، سافرت خلسة منذ ثلاثة شهور خارج
سوريا.
وتحكي هنادي قصة اعتقالها، وما رأته وعانته داخل
سجون النظام، فتقول: "بعدما تحولتُ إلى المحاكمة في عدرا (قرب دمشق)، تم التحقيق معي أكثر من 19 مرة بتهم متنوعة، كان أبرزها تمويل الإرهاب، والتواصل مع قنوات مغرضة عميلة". وتضيف: "هنا بدأت أذوق أشد أنواع التعذيب من الضرب إلى الإهانة، إلى الصعق بالكهرباء، إلى التحرش اللفظي".
وتقول هنادي: "اعتقلت لمدة 49 يوماً في فرع المنطقة 227، وبعد التحقيق معي تم نقلي إلى الفرع 291، لأني كنت مطلوبة له أيضاً، لكن، لا أعرف لحسن أم لسوء حظي، لم يكن هناك منفردات، فتم اقتيادي إلى فرع الأمن العسكري 215 ذي الصيت الذائع في التعذيب والتهويل، ومن هنا بدأت الحكاية تتشعب أكثر".
وتروي هنادي قائلة: "دخلت إلى الفرع وقام بتفتيشي رجل ستيني كانت المعتقلات قد أطلقن عليه لقب "شرشبيل"، لما له من وحشية في التعامل، حيث كان يقوم بخلع حجاب الفتيات والإمعان في إذلالهن أثناء التفتيش، ثم يتناوب مع الضابط الذي أمامه العبارات البذيئة والسوقية ليقولها لنا. ومع أني كنت قد انتقلت من فرع إلى فرع إلا أن التفتيش لم يقصد منه معرفة ما معي بمقدار ما قصد منه إذلالي، وهنا تكمن الحرقة، يفتشك رجل خرف أمامك، يقذفك بأشد الشتائم، وأنتِ صامتة لا تملكين إلا الصراخ داخلك دون أن يسمعك أحد".
وتتابع هنادي: "بعد التفتيش دخلت إلى غرفة مكتظة بالفتيات، بعضهن صغار، وبعضهن قد تجاوزن الستين، تعرّفت على الكثير من الفتيات، كنت غارقة بدموعي، لكنهن أحببن أن يخففن عني فاستقبلنني قائلات: فتشك عمو شرشبيل؟".
وتوضح هنادي أن الفتيات كن من كل عموم سوريا، وكان بينهن معتقلات مشهورات، مثل عالمة الفيزياء فاتن رجب، ودعاء محمد، ومعتقلة من الميدان اسمها "حفيظة" والكثيرات.
وتضيف: "كنا نتألم ونتوجع يوميا، ولم يكن لدينا إلا ظرف "سيتامول" عليه أن يدور على عشرين فتاة في المهجع! حتى لو كانت الواحدة منهن تموت لا يمكنها أن تخفف ألمها إلا بظرف مسكن "سيتامول"، في حين كانت فتيات المحافظات السورية كدير الزور ودرعا وحمص وغيرهم يتلقين من التعذيب ما لا يحتمله عقل كائن بشري".
وتتذكر هنادي أنه "بعد أيام قليلة دخلت علينا فتاة بهيئة مزرية، يظهر عليها آثار الضرب والتعذيب، ما إن رأينا ذلك حتى بادرنا لنرسم ضحكة على وجهها ويعود لها نفس السؤال الذي وجه إليّ: استقبلك شرشبيل؟".
وتقول هنادي لـ"عربي21": "كانت هذه الفتاة رحاب العلاوي، طالبة هندسة مدنية، اعتقلت وجيء بها إلينا.. فتاة لها من اسمها نصيب كبير، عليها من رحابة الصدر ما يكفي لأن تحكي كل معتقلة منا ألمها لها، ولها من الأمل ما يحكي عن وطن، ذات خلق رفيع وحضور جذاب، تحب الخير والمساعدة، كانت تجلس مع فاتن رجب في زاوية في السجن وتخططان كيف ستبنيان البلد، هنا سنقيم المشروع الفلاني، وهناك سنعمل على تأسيس مدرسة، كانت أحلامهن أكبر من هذا السجن الضيق الذي وضع فيه الشعب والذي يدعى وطنا".
وتضيف هنادي: "عندما دخلت رحاب السجن أول مرة وهي باكية وتبدو عليها علامات الغضب، سألناها: ما اسمك؟ أجابتنا: أنا رحاب علاوي، بس أنا مو علوية، أنا من الموحسن بدير الزور، وطالبة هندسة كمان. ضحكنا وقتها على طريقة كلامها العفوية، ثم قلنا لها: بتعرفي إنتي وين هلأ؟، فقالت: إي أنا بفرع أمني مو بحديقة بتخيل".
لقد داهمت قوات من الحرس الجمهوري المنزل الذي تقيم فيه رحاب في دمشق أثناء فترة امتحاناتها، وضربتها بشدة أمام أمها وأختها، ثم اقتيدت إلى الفرع 219، وهناك تم التحقيق معها لمدة 13 يوما، ثم نقلت إلى فرع الأمن العسكري في كفر سوسة (215)، بتهمة مساعدة جماعات مسلحة، وهنا بدأت التهديدات بالإعدام تطال رحاب إذا لم تعترف بأن لها علاقة مع مسلحين إرهابيين، وكان المشرف على التحقيق ضابط من الحرس الجمهوري، في حين أن من لفّق لها كل هذه التهم أناس كان النظام قد دسّهم في الثورة لينقلوا تحركات الناشطين، فتظاهروا في العلن بأنهم مع الثورة، لكنهم كانوا ينقلون كل حركة للثوار، حتى جيء برحاب في يوم من الأيام ومَثَلَت أمام الضابط، وكان من بين هؤلاء الناس فتاة لفّقت العديد من التهم لرحاب.
وُوجّهت تهمة إلى رحاب بقتل شبيح تابع للحرس الجمهوري، ولُفّقت لها هذه التهمة بالتعاون مع المخبرين الذين جنّدهم النظام، وكان أحدهم حاضرا أثناء التحقيق، بدأ المحقق يضرب رحاب بعنف قائلاً: "شو رأيك يا رحاب أقتلك هلأ، وأرميكي مكان ما انرمى الشبيح؟". أجابت رحاب: "لا إله إلا الله محمد رسول الله، سلمت نفسي لله".
أغضبت هذه الكلمات المحقق كثيراً، فضربها على خدها بعنف حتى كاد رأسها ينفصل عن جسدها، وصار يهددها بأنه سيقتل أمها وأختها إذا لم تعترف، إلا أن رحاب انهارت هنا، وسقطت عند قدميه تقول: "أبوس صرمايتك يا سيدي لا تقرب على أمي وأختي، بحكي كلشي".
وهنا راحت رحاب تعترف بكل ما ليس لها علاقة به، فدُوِنَتْ كل تلك الأقوال، ولُفِقَتْ التهمة إلى رحاب: "تعامل مع مسلحين من الإرهابيين وقتل شبيح".
عادت رحاب إلى زنزانتها وحكت كل ماحصل معها، كان مصير الإعدام شنقا ينتظر رحاب، حيث نقلت من زنزانتنا مع تاريخ 15/2/2013 "عرفنا بعدها أنها أعدمت"، كما تقول هنادي.
وتؤكد هنادي أنها تعرِف الكثير من المعتقلات اللواتي تمت تصفيتهن، ومنهن أمل الصالح من إدلب، حيث نُسبت إليها تهمة حمل السلاح والقيام بالتفجيرات، ومعتقلة من حي الميدان اسمها نظيرة، نُسبت إليها تهمة خطف ضابط في فرع فلسطين، وقد حكم أيضا على ابنتها تغريد 12 سنة. وثالثهما فاتن رجب، "كلهن لفق النظام لهن هذه التهم ليتخلص منهن"، وفق ما ترويه هنادي لـ"عربي21".
وترى هنادي أن هناك "قيصرا" ثانيا سيخرج "ويفضح هذا النظام ونرى مزيداً من الصور لشهداء قضوا تحت التعذيب بينهم الكثير من النساء". وقيصر هو الاسم الرمزي لضابط انشق عن النظام السوري وكشف آلاف الصور لمعتقلين قتلوا تحت التعذيب.
وكانت عالمة الفيزياء فاتن رجب، الحاصلة على شهادة الماجستير في علوم الذرة قد نقلت من سجن عدرا قبل أسابيع إلى جهة مجهولة. وذكر أن النظام السوري أخضعها لتعذيب مختلف، إذ يعتقد أنه جرى حقنها بمادة كيماوية مجهولة التركيب تؤدي إلى تشنجات وضعف في الذاكرة، فيما نسبت مصادر حقوقية إلى مدير المخابرات الجوية اللواء جميل حسن تهديده لها بأنه سيجعلها تعاني من الخرف خلال عامين إذا لم تتعاون معهم.
في سوريا هناك آلاف المعتقلات من النساء، يقبعن، إلى جانب عشرات الآلاف من المعتقلين، في سجون النظام، وتمارس عليهن كل وسائل الضغط والترهيب، لكن كيف لجدران السجن أن تسمع صرخاتهن؟ وكيف للأجساد النحيلة الممزقة أن تكون فوق قوة هذا السوط الموجه عليهن؟