مشروعات "الفنكوش" القومية

عهدنا منذ قيام الانقلاب أن يصدر خطاب عن المشاريع الوطنية والقومية التي غالبا ما يكون وراءها المؤسسة العسكرية، أو بعد أن صار المنقلب رئيسا.. حتى ينسب لهؤلاء هذا التميز الكبير، وباعتبار أن هذه المؤسسة هي المنوط بها دائما أن تقدم تلك المشاريع أو تسهم فيها أو تحملها كلية، وقد رأى هؤلاء في عملية إعلامية إعلانية أن يقدموا كافة هذه المشروعات على اعتبار أنها هدية الجيش إلى عموم الناس، عملية إعلانية لا تخلو من ترويج وكأن هذه المشروعات لا تطلق إلا من خلال حملات للشؤون المعنوية.

بدا هذا الأمر في ثلاثة مشاريع أُعلن أنها قومية صاحبتها حملات ترويج لإقناع الناس ليس فقط بأهمية هذه المؤسسة ولكن كذلك محوريتها، إلا أن العسكر من حيث أرادوا أن يقدموا هذه الباقة الإعلامية والإعلانية لرسم صورة إيجابية، فهم في حقيقة الأمر خسروا الكثير حينما تعلق هذا الشأن بأمرين خطيرين؛ الأول منهما يتعلق بصناعة الأوهام وبيع الأحلام الذي هو عين الفنكوش، وأن كل ما يقال سيكون مقبولا لدى الشعب مهما كان غير معقول، وكأنه أراد بذلك أن يختبر مدى دخول هذا الشعب في بيت طاعة العسكر يأتمر بأمرهم، ويصدقون كل قولهم، ويمتثلون لكل رغباتهم؛ إنها حالة بعض العسكر حينما يرون في قبول اللامعقول اختبارا للطاعة، وامتثالا للأمر. أما الأمر الثاني فإنه يتعلق بأن العسكر محور حياة الناس ونهوضهم ليس ذلك بالقيام بوظائفهم وأدوارهم المختصة بهم بحماية الوجود والحدود ولكن بدخولهم في شؤون تعتبر في صميم المجال المدني أو على أحسن الفروض ينتمي إلى ساحات ومساحات التنمية. إنها واحدة من أشكال عسكرة الدولة والمجتمع.

ترى كل هذا في ثلاثة مشروعات ألحق بها لفظ "القومية" لتعبر بذلك عن صناعة صورة  تتعلق بالعسكر في علاقتهم بشعب مصر، يؤسسون للمعاني التي تتعلق بقدراتهم الخارقة، مؤكدة لنظرة سحرية تتعلق بحالة انبهار حول عمل هذه المؤسسة وقدراتها الفائقة التي تصورها وسائل الإعلام على أنها بمثابة أفعال خارقة، إلا أن هؤلاء قد تناسوا أن الوعود إذا أُخلفت والإعلان وقد زُيف، فإن ذلك يؤدي إلى عكس المقصود إذ يصم هذا الأمر جميعه بحالة من الضبابية والوهمية في ضروب عملية تعتيم ممنهجة ومسالك اختيالية واحتيالية يلخصها تعبير تسريبي هو "تلبيس العمة".

هذا بالضبط ما حدث في مشاريع ثلاثة تحركت ضمن هذا المسار لتعبر عن صورة شديدة الخطورة خاصة بعدما تصدر العسكر المشهد في إطار انقلابي وجدوا فيه المناسبة والفرصة للقفز إلى سدة الحكم بشكل مباشر، لأحد هؤلاء الذين دبروا لذلك المشهد الانقلابي. مشاريع قومية "فنكوشية" ثلاثة أكدت هذه المعاني الخطيرة وارتبطت بشكل أو بآخر بسلطة العسكر أو عسكر السلطة، وفي كل مرة كانت هناك حملة إعلامية من الشؤون المعنوية للتبشير بهذه الحالة الخارقة، ثم ما بعد ذلك لا يلبث إلا أن يؤول أمر هذه المشاريع إلى فشل ذريع، لا يتحقق منه المقصود أو أي مردود. في كل مرة يروجون ثم بعد ذلك يسوفون ويماطلون ويراوغون، ولكنهم أبدا لم ولن يكونوا في مقام المعتذرين أو المعترفين بذنب أو خطيئة.

مشروعات ثلاثة؛ مشروع علاج "الإيدز، وفيروس سي" بالكفتة والذي أفرز "الطريقة العبعاطية"، ومشروع المليون وحدة سكنية الذي تم فيه الاتفاق مع شركة عرفت بتقاعسها وفسادها. ومع تنبيه الكثيرين لكل ذلك إلا أن اتفاقا أبرم لم يلق بالا لكل ذلك، ثم كانت رحلة صناعة الأوهام وبيع الأحلام وإخلاف العهود والوعود. أما المشروع الثالث فهو مشروع العاصمة الجديدة وحتى هذا المشروع لم تستقر المؤسسة حينما روجت له في مؤتمر اقتصادي، هل هو عاصمة جديدة أم عاصمة امتداد ملحق؟ أم أنها عاصمة تستوعب مؤسسات الإدارة في الدولة بشكل أو بآخر؟ ورغم أن البعض قد يتحفظ هنا تحفظا أو ينبه إلى أمر هنا أو هناك، إلا أن ذلك لم يلق بالا، ولا تحرك الهيئات المعنية ساكنا للرد على هذه الاعتبارات أو التحفظات، لا لشيء سوى أن هؤلاء العسكر لا يقدمون دراسات جدوى بل هم يتحركون بثقة الشعب فيها، وتتعامل مع الأمور وكأنها عمليات تقديرية محضة من جانبهم. فإن أمضوا شيئا فقد مضى، وإن أوقفوا شيئا فإن هذا في مصلحة شعبهم، وإن برزت فنكوشية المشروع فإنه لا اعتذار ولا حساب. ممارسات تغيب فيها دراسات الجدوى والجدية، وتختفى عنها المعلومات والشفافية.

 فهذا مشروع الكفتة ينتهي بطلب الهيئة المختصة بالرقابة المهنية من نقابة الأطباء بتحويل كل من شارك من أطباء في هذه المهزلة إلى التحقيق لإسهامهم في هذه المهزلة الطبية، وها هو مشروع المليون وحدة سكنية يعلن رئيس الهيئة الهندسية بالقوات المسلحلة إنهاءه بعد أن قرب الموعد لاستلام أول دفعة فيه، فإذا به يعلن عن فسخ ذلك التعاقد مع الشركة الإماراتية "أرابتك" التي تحدث الكثيرون عن انحرافها وعدم التزامها. فيقول ويعلن للكافة وبكل بساطة: "لقد أنهينا التعاقد معها لأن شروطها لا تناسبنا". وها هو مشروع العاصمة الجديدة الذي يتكلف (45) مليار دولار، ورغم تحفظ البعض على هذه التكلفة فضلا عن جدواه وعلى الطريقة الفنكوشية، فقد ساوم المنقلب على المدة التي يستغرقها المشروع وكأن ذلك بدون حسابات أو تخطيط أو تدبير. هذه أهمية دراسات الجدوى؛ ولكن حينما يرى المنقلب أنه  لا جدوى من دراسات الجدوى فإنه يستطيع أن يضرب الموعد الذي يريد، وإذ بنا نقرأ خبرًا على بوابة الشروق وقد حذف بعد دقائق من نشره يتحدث عن أن الشركة المنوط بها التنفيذ تنفي علاقتها  بالمشروع، ليتأكد كل ذلك على أننا سائرون على "طريق الفنكوش"و"أساليب الكفتة".

ليست هذه نهاية المطاف في ذلك المسار الفنكوشي في التعامل مع المشروعات القومية طالما أن الأمر لا يستدعي إلا إلى حالة الثقة في غير مقامها وتجاهل المعلومات اللازمة التي تتطلب جدوى المشروعات قبل قيامها وتغيب المساءلة والمحاسبة، وتصدر المؤسسة لتلك المشروعات لرسم صورة تعبر عن إعجاز فعلها وخارق عملها. ولكن الأمر أبعد من ذلك؛ إنه يتحرك ضمن الطريقة "الفنكوشية": "الفنكوش طريقة حياة، والكفتة أسلوب ومنهج، وفساد الأسانيد والغايات إنما يشكل حالة من حالات الأسطورية التي تتواكب مع عمل يتعلق بصناعة الأوهام وبيع الأحلام، معتقدين أن ذلك الطريق ليس إلا ممارسة واختبارا لطاعة الشعوب وثقتها. وما هذا لعمري بصحيح، ولكنها سياسات الاستخفاف الفرعوني التي تحرك هؤلاء وتمضي في مسار "فاستخف قومه فأطاعوه" حتى لو كان فنكوشا. هذه هي الحالة الخطيرة المتعلقة بمشاريع الفنكوش، لن تكون الأخيرة.. فهل يمكن لهؤلاء أن يستمروا باحتيالهم على شعوبهم وأن يزيفوا كل أمر يتعلق بمشروعاتهم ويبيعوا الأوهام والأحلام لشعوبهم ويجعلوا كل ذلك طريقتهم ومسارهم؟ هل يمكن لشعب أن يمارس معه كل ذلك الاستخفاف أن يستمر في تصديقهم ؟!!.