بصرف النظر عن أية ارتدادات سلبية لخطاب نتنياهو في الكونغرس في مسيرة
المفاوضات مع
إيران، فهذا الحدث الاستثنائي والفريد سجل فورياً مفصلاً تاريخياً، هو الأول في نوعه، في واحد من أهم الأحلاف الدولية المؤثرة والفاعلة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. إنها ثنائية الأمركة والصهيونية التي فرضت شراكتها المحورية على أخطر التحولات المصيرية لكيانات القارة العربية، خلال عودة هذه الكيانات إلى ممارسة وجودها السياسي كدول حرة مستقلة في أقطارها، ومتوازنة مع أندادها من دول العالم، بعيداً عن منطق الاستغلال والعدوان وصراعات النفوذ والهيمنة المعروفة والسائدة في العلاقات الدولية.
هذه الثنائية ليست حلفاً بين دولتين. فالروابط بين قطبيها هي أقرب إلى علاقة صانع بمصنوع، هذا بالرغم من عظيم الفوارق الهائلة بينهما. فالإسرائيليون يعرفون في قرارة نفوسهم أن أمريكا هي خط دفاعهم الأول عن وجودهم، فلم يكونوا هم أو لتكون لهم دولة، وأن تنتصر في كل حروبها وتصمد ضد أعدائها داخلها وحولها من الفلسطينيين والعرب، لم تكن إسرائيل نفسها بما هي عليه منذ زراعتها لو لم تجعلها أمريكا ولاية أخرى مضافة إلى ولاياتها، وإن من ما وراء البحار. هكذا، فحين يشق نتنياهو عصا الطاعة على الرئيس أوباما، كأنه حاكم ولاية يقوم معارضاً داخلياً محلياً ضد سياسة خارجية لدولته الكبرى.
من هذه الزاوية هل يمكن اعتبار حادثة الخطاب في جملته كما لو كان ظاهرة ديموقراطية تعبر عن ممارسة حق المعارضة (المشروعة) من البعض من أهل الدار أنفسهم، وربما فهم أعضاء الكونغرس عبر نوبات التصفيق، قياماً وقعوداً. مبادرةَ التحدي الإسرائيلي هذه، كمعارضة ديمقراطية ممثلة أو متجاوبة مع إرادتهم، في رفض الظاهرة الإيرانية، وليس قنبلتها فحسب.
ليس غريباً على الإسرائيليين أن يتدخلوا في الشأن الأمريكي الذاتي، والحكومي منه، وتحديداً ما له علاقة بمصطلح (الشرق الأوسط) وعمقه الإسلامي، وقد دأبوا على ذلك السلوك منذ نشأة دولتهم وما قبلها، غير أن تمثيلية نتنياهو الأخيرة شرّعت نهج المعارضة لرمزية السلطة العليا، انطلاقاً من أرفع مؤسسة تشريعية للدولة (الكونغرس)، وأكثر من هذا فهذه المؤسسة نفسها لم تشارك نتنياهو في مبادرته تلك شكلاً فحسب، بل تبارت مع حماسته حتى وصلت هذه الجلسة العجيبة إلى ما يشبه مهرجاناً شعبوياً صاخباً، ستكون له آثاره المتفاعلة في حياة الداخل الأمريكي، منعكسةً على مصالح دولة إسرائيل نفسها دفاعياً واقتصادياً، ولقد ظهرت سريعاً بوادر تشاؤم لدى أوساط مسؤولة وأهلية ما بين يهود أمريكا في عاصمتهم المركزية نيويورك، والفرعية تل أبيب في إسرائيل.
بالرغم من أن الإعلام الرسمي، أمريكياً وإسرائيلياً، سعى فورياً إلى قطع الطريق أمام تداعيات الخطاب. وذلك بنفي أي مفعول له حاسم قد يغير شيئاً من طبيعة المفاوضات كما هي جارية حالياً مع إيران، غير أن حفلة الكونغرس هذه لن تنقضي كما لو أنها لم تقع أبداً إذ صار واضحاً أن أمريكا ماضية في النهج الذي رَسَمَهُ رئيسها الأسمر المختلف أوباما، وأن هذا النهج شرع في خلط أوراق رئيسية في خارطة الاستراتيجية الإقليمية بل الدولية، لن تكون بنود عديدة في لائحة تقاليد السلوك الأمريكي الرسمي المعروفة مع المسألة اليهودية عامة في منأى عن المتغيرات الجديدة.
في محصلة هذا الحدث علينا أن نتذكر أن أهم إشكالية يواجهها نهج أوباما في مصطلح (الشرق الأوسط)، هو إعادة توزيع توازنات قواه كدول كبرى وشعوب وعقائد.
فما إن تفجرت الثورات والمقتلات في العديد من أقطار هذه المنطقة، حتى فرضت إشكالية توزع
القوى المحلية هذه نفسها على النهج الأوبامي، باعتبار أن دولته هي المهيمنة والراعية الرئيسية المسؤولة عن مصائر هذا الشرق الأوسط.
لقد انخرطت أمريكا في معمعان ما دعي بالربيع العربي. ويعرف المراقبون في المنطقة أن أصابع إسرائيل لم تغب أبداً عن أية ساحة متفجرة، وأنها كانت ملازمة دائماً لزميلتها الأمريكية، لم تغب إلا عندما أغلقت أبواب الاجتماعات السرية ما بين ممثلي أوباما ورجال المرشد الإيراني. هكذا أحست إسرائيل أن منافساً جديداً قد برز في المنطقة.
اليوم لم تعد القنبلة النووية المؤجلة الصنع هي التي تخيف إسرائيل ومعها «اليهودية» العالمية. إنها السياسة الإيرانية نفسها الغازية لعواصم المنطقة جميعها.
بالطبع ليست إسرائيل وحدها الدولة التي ترعبها أدوار إيران المتعاظمة في المنطقة. هنالك عديد الكيانات العربية الأخرى التي لا تزال قائمة وإن أمست مهددة. لكن ما يخيف إسرائيل حقاً أكثر هو شعورها بإمكان فقدانها للمبدأ الذي قام عليه بناؤها: وهو انتدابها لوظيفة الوكيلة الأولى للدولة العظمى في العالم أمريكا على الشرق الأوسط، وطن الثروات الاستراتيجية للعصر الإنساني اليوم والغد.
هل سوف يمضي نهج أوباما في طريقه المرسوم كما حقق له رئيسه الأسمر هذا من ثمرات عديدة عبر دهاليز «الربيع»، هل كانت صيحات نتنياهو فوق رؤوس أعضاء نواب أمريكا كافية لتحقيق يقظة ما في عقل المنهج الأوبامي، أو أنها ستكون صيحات ذاهبة مع أدراج رياح المفاوضات النووية السائرة إلى أهدافها، بنوع من الحتمية شبه السرية أو السحرية؟ فقد يقال بعد هذا التمرين الفذ في التمرد (اليهودي) على إرادة الدولة العظمى إن النهج الأوبامي قد برهن حتى الآن على أنه ليس مذهباً شخصياً فحسب، إنه قرار مصنوع من – وصادر عن- عميق سلطة الحكم لمؤسسة الدولة العظمى.
أما السؤال عن حيثيات هذا القرار فهناك وراء هذا النهج تراث أركيولوجي من تحولات التاريخ الأمريكي، وخاصة لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ثم لما بعد الحرب الثالثة الباردة. فلنتذكر، فلسفياً على الأقل، أن المشروع الثقافي الأمريكي قام في جوهره على أن القانون الثابت الوحيد هو التغيير. «والأمة» التي لا تدرك هذا القانون تتحول إلى أركيولوجيا، مكانها المتاحف الصامتة
لم يعد الشرق الأوسط إذن مسرحاً لثورات الربيع وأعدائها فحسب، بل صار ميداناً أمريكياً يتصارع فيه مرشحون كبار عديدون للقيام بأعباء الوكلاء الفرعيين للإمبريالية العالمية.
ما تخشاه إسرائيل ليس نهايتها المحتومة، بل قبلها صار عليها أن تصارع من تعتبره نسخة أخرى مزودة عنها.
أما الوكلاء العرب القدامى فلم يتبق لهم سوى مقاعد المتفرجين.
نقلاً عن صحيفة القدس العربي)