كتب مطاع صفدي: لم يسبق للعرب منذ استردادهم لما سيسمى برحلة استقلالهم الوطني وإشادة دولهم المعترف بها عالميا، أن تضاءلت قدراتهم السياسية في تسيير أبسط أمورهم الجماعية، وحتى في الدفاع عن أمنهم القومي، لم يسبق لهم أن يصيروا إلى مثل هذا الاستسلام (القومي) و(الوطني) لأتفه ألاعيب السياسة الدولية وتآمراتها الباطلة..
فليس ثمة قطر أو بلد واحد عربي اليوم يمكنه أن يتفاخر بكونه مستقلا، محققا شروط السيادة الكاملة لمشروعيته الإنسانية والدستورية.
بل يمكن القول كذلك إنه ليس من بلد عربي يتمتع بحد أدنى من شرط هذه المشروعية، ومن عجيب الأمور أن مضى وقت طويل نسبيا على خروج الاستعمار الغربي الاحتلالي، لم تعمل ثوراتنا المجيدة خلاله على تعميق التطور الاستقلالي، لم تكتسب مجتمعاتنا الناشئة قدرات أوسع في تقرير أمورها، لم تساعد تجارب هذه المرحلة في إنتاج أنظمة اجتماعية تعلّم الناس أصول العيش الإنساني المشترك بين مكوناتها ومؤسساتها، قديمها وحديثها.
فإن حقبة نصف القرن العشرين وبداية ما بعده، هذا الزمن
التاريخي المفعم بذرويات حادة من صنف الوقائع المفصلية الكبرى، التي قد تخلق حضارات من عدم أو تدمرها كأنها لم توجد أبدا.
هل نقول إن هذه الحقبة لم تعلم شعوبها شيئا، وإنها كانت أقرب إلى زمن سحري طافح بأحلام كوابيس الرعب الخرافية مع القلة البائدة من أحلام الشبيبة التائهة؟
والحقيقة أن هذه الحقبة تكاد تنشئ تاريخا ذاتيا يخصها وحدها، لن تفهم أحداثه الجسام إلا بترابطها العضوي فيما بينها. يصح هذا الرأي على الرغم من أن عنف التناقضات العاصفة فيما بين حدودها. حقبةَ الستين هذه اللاهبة لم يستبقها فكر استراتيجي ما غربي أو عربي، كأنما ولدت من رحم صدف التاريخ المجهولة، لم يخطط لأحداثها أحد، وإن كل حدث فيها يشفّ عن مخطط أجنبي أو أهلي رهيب.
الحقبة الستينية أو السبعينية التي نشهد حاليا خاتمة فصولها تحت طائلة ذلك الربيع
العربي المشؤوم منذ سنوات أربع؛ خمس لن تصل إلى نهايتها قريبا على عكس ما توحي به ظواهر الأحداث، ذلك أن حروب المنطقة قد افتتحت معاركها المصيرية كأنها مشروطة بتعجيزها عن الوصول إلى خواتمها.
فكل شيء مضطرب في المنطقة، وليس بينها ما يفرض حلوله الحاسمة. إنه خضمّ عامر بأصناف العاصفات كلها. ولا أحد يمكنه أن يرسم صورة، ولو أولية، لجيولوجيا أية أرض لما بعد العاصفة. ومن يدعي غير ذلك لن يكون إلا أحد الراجمين في الغيب.
بل لعل أعجب ما بات يميز خاتمةَ الحقبة الستينية السبعينية الحالية، وهو كونها مدعية لربيع عربي مبدع وجديد، في حين أنه لن يكون حقا فصلا خلاقا، لحيوية مبدعة مواسم من الحرية المطرودة منذ عصور سحيقة من قصور العرب وبواديهم معا.
هذه الحقبة يبدو أنها ليست متميزة وحدها بأصناف الوحشيات المرتكبة بحق الملايين من أبناء شعوبها، وبأيدي البعض من أبنائها.. أن معظم الرأي العام المعاني والمراقب للفظائع، إنما ينظر إليها كما لو كانت أفعالا وآثاما لشعوب أخرى.
هناك رفض شبه غريزي للتصديق أو للمصادقة على أبناء الأهوال، واعتبارها وقائع كما لو أنها مجرد شائعات، بل كما لو كانت تخص شعبا آخر لا شأن له بشعب أمتنا الفاضلة..
إن تبرئة الساحة الذاتية من أي مسؤولية سياسية أو أخلاقية، ليست تنصلا جماعيا مقصودا بقدر ما هي نوع من الحماية الغريزية؛ خوفا من التعرض لحكم الإدانة المطلقة من الوجدان الجماعي. هذا الوجدان دأب على رفض أي إدانة سلبية توجَّه للفاعلين الحقيقيين، تنزيها لهم عن أي إدانة مشروعة ضد شرورهم.
أخيرا، هل نقول إنه آن الأوان لرفع طقوس المحذورات عن كواهل المصالح العامة لتكشف هذه عن وجوهها الأصلية. ولكن من يصبر حقا على مواجهة حقائق التاريخ دون أقنعتها المشاعة عنها؟
وأولى هذه الحقائق هو أنه ليس من حدث يوصف عادة بالتاريخي، أن يأتي بالتحولات الكبرى نقية خالصة لذاتها من دون أن تكون ملوثة بأبخرة الواقع الفاسد، الذي نشأت هي في أحضانه.
هذا التحليل ليس تسويغا لسلطة
الفساد، ليس إقرارا بقدرته على كسر موانعه وخصومه، وإن كانت حافلة دائما بالاعتراضات، غير أنها قلما بارحت هذه الاعتراضات.. الدائرة الإيديولوجية المطوقّة للأحوال العامة.
لم يتنبه وعي الطلائع (الثورية) لظاهرة الفساد السياسي التي كانت تفشت وراء المفاهيم الجاهزة للصراع الطبقي؛ فكان الفساد السياسي فائزا بحصصه السرية من كل مصلحة عامة ينشغل أربابها بتداول السجالات اللفظوية الناشبة بين رموزها القيادية.
كان الفساد السياسي ناميا ومستفحلا لا رقابة عليه، في حين كانت (أداليج) المناورات اللفظية تطمس معالم المشكلات الملحة، وتتقاذفها ما بين رؤوسها الحامية.
الفساد والسياسي خاصة كان حرا طليقا، ناشطا وراء كل الجهات السياسوية المفتوحة هنا وهناك. كان وحده يصول ويجول حارفا وراءهم كل ظاهرةٍ إيجابية تحت ظلها الأسود الشفاف. إنها عشرات بل مئات من مشاريع الانقلابات والثورات والتحررات التي فشلت أو قُتلت ودُمرِّت، وهي لم تزل بعدُ في صدور أصحابها.
حدث كل هذا الصخب لشعوب أمة حالمة بمستقبل مختلف لأجيالها، لكنها تعثرت جميعها وأمست، على حدّ قول المتنبي، نصالا تنكسّر على نصال.
حقبة الستين والسبعين من حروب الرمال والدماء قد تكون أوشكت على إنجاز معارك تصفيتها الأخيرة، فكان لها أن تسمَّى بمغزاها التاريخي؛ إنها حقبة الفساد السياسي الذي كشف في لحظة أن حقبة التغيير الهائلة قد ابتنت حقا أهرامها الأكبر.
لكنه أهرام مصنوع من خشب منخور بعفونة العصور البائدة، ولم يتبق له إلا رمالها العقيمة.
(عن صحيفة القدس العربي اللندنية، 14 أيلول/ سبتمبر 2015)