"المفهوم الجديد للسلطة لم يعد ممارسة محتكرة من طبقة معينة، إنما هو تسلط يتم من خلال قوة لا شخصية هي التكنولوجيا". هذه العبارة هي لأحد رواد النظرية النقدية (هربرت ماركوز)، وهي تمثل من وجهة نظري الشخصية، أهم العبارات التي تكثف التحولات في معنى السلطة في العصر التقني. وهي تمثل رداً كافياً على من يرد استخدام التقنية حصراً في بعد ثنائي يتمثل في الخير والشر.
بعبارة أخرى ليس بكافٍ القول إن السكينة- وهو المثل المعهود في مثل هذه الحالة- يمكن استخدامها في تقطيع الطعام، يعني في أعمال الخير، أو أداة للقتل، يعني في أعمال الشر.
أكرر، أصبح هذا الرد غير كافٍ على الإطلاق للتعبير عن التقنية، ويعكس سذاجة واضحة في ما يتعلق بالإشكالية الراهنة. لأنه لا يرى التقنية في ذاتها، التقنية كـ"جوهر".
فالمشكل بالنسبة لي أنا هو كالتالي: ماذا لو كانت السكينة تجعل منك صاحب أكبر سلطة؟ هنا يتمثل جوهر المسألة: الانفتاح على مفهوم مغاير للتقنية. مفهوم لا يرد التقنية إلى الوعي، أو إلى إرادة الخير، أو إلى إرادة الشر، أو إلى العقل، أو الجمال . النظر إلى التقنية لا من زاوية المصالح والقوى والجماعات التي تحركها، بل التقنية كشيء مستقل. مع عدم التقليل من هذه المنظورات التي لا ترى التقنية في ذاتها كـ"جوهر".
فالتقنية تتخلى عن أن تظل تعبيراً عن فعل إنساني بُذل لسد حاجة اجتماعية، أو جمالية، أو اجتماعية، أو اقتصادية وإنما لديها قدرة على الانفصال عن كل هذه الحاجات لتمسي مرتبطة بذاتها، لتأخذ قيمتها بما هي تؤدي إلى توسع من قوة التحكم لدينا، توسيع قدرة السيطرة والتحكم لدى حائزها.
وهكذا يمكن القول إن سلطة
داعش لا تتأتي من محرضات دينية، كرد وجود داعش إلى ابن تيمية، أو لفكرة الجهاد والخلافة، أو إلى عوامل أخلاقية، أو إلى عوامل اقتصادية، هذا كله غير كافٍ ، بل إن الأهم عندي هو التقنية التي يحوزها التنظيم، لا محتوى أفكاره. إن داعش هو ابن غير شرعي للتقنيات الحديثة .
تندفع دائرة توسيع قوة التحكم والسيطرة التي توفرها التقنية لحائزها إلى حدها الأقصى، حين تتسق مع بنية شعورية ونفسية متعطشة للقتل وتشبع هذا النهم. وحين تلتقي التقنية مع دافع السيطرة الأصيل الكامن لدى البشر، إذ ذاك تتحول إلى "شر " واسع النطاق.
إن أخطر ما في تنظيم الدولة "داعش" أنه تجتمع تحت يديه جملة محرضات، تجعل منها طاقة شريرة متعطشة لأفعال تأباها النفس. وهي: استحواذه على تقنية حديثة من أهم سماتها أنها تغري صاحبها في توسيع دائرة السيطرة كما أسلفنا. وثانياً في تحوله إلى دولة، فقد امتلك تنظيم الدولة "داعش" كل مقومات الدولة: إقليم، حكومة، وشعب، فضلاً عن تحكمه بموارد وثروات هائلة. لم يبق سوى الاعتراف الدولي. إذاً يشكل التحول إلى دولة السمة الأبرز للجماعة السلفية الجهادية "داعش".
وليست الدولة سوى قوة متضخمة تستحوذ على أكبر رأس مال اجتماعي واقتصادي ومعنوي، يجعل منها قوة فوق اجتماعية، وتتحكم في المجالات الاجتماعية كافة. إن تنظيم الدولة يعكس بشكل واضح حقيقة طبيعة الدولة التي بينها الفقيه جورجو أغامبين في كتابه "حالة الاستثناء" تلك الدولة التي تملك حق تعليق القانون وتتصرف في حالة الطوارئ كقوة فوق القانون، وبالتالي قدرتها على تعرية الحياة.
إن داعش يشكل دولة في حالة طوارئ دائمة، مما يجعله خارج الحياة العادية، ويضع الفرد في إطار الحياة العارية يتعامل معه بمنطق القوة العارية أي القوة غير المنضبطة بأي إطار معنوي أخلاقي. وتغريه التقنية بأن يكون صاحب سلطة مطلقة واسعة لا حدود لها. والمصدر الثالث الذي يجعل من داعش طاقة متعطشة لفعل القتل، أن تنظيم الدولة ما يزال مصطدماً مع النظام الدولي، لا يخضع لقواعده، مما يحرره من أية ضوابط تحد من تصرفاته.
وأرى أن داعش سوف ينقلب إلى ضده. إن تحوله إلى دولة يعني سهولة السيطرة عليه. وقد تستثمر دوائر السيطرة الغربية هذه الفرصة، أي فرصة تحول داعش إلى دولة؛ لأنها في ذاتها تفتح فرصة للاستثمار أمام عقل غربي براجماتي (عملي)، من خلال تحويل كل عناصر السلفية الجهادية المنتشرة في العالم صوب تنظيم الدولة في العراق، المنطقة الرخوة والبيئة الأنسب بعد تدمير النظام العراقي. أي تجميع العناصر الجهادية وحصرها في دولة، كي يسهل التعامل معها والتحكم فيها وضبطها إيقاع حركتها، وبالتالي حصر التهديدات في منطقة متحكم بها ومسيطر عليها.
فالدولة أنسب إطار سياسي للتحكم والسيطرة بعد فشل العلوم العسكرية الحديثة، في التعاطي مع هذه الحركات ومع الحروب منخفضة القوة. فالدولة في القاموس السياسي تحيل إلى معنى الدوام والاستقرار والثبات.
وعليه، إن التغيير من خلال الدولة هو تغيير هامشي ومحدود. وهكذا تتحول الدولة في الحالة الداعشية إلى تقنية لضبط تنظيم الدولة، فتنقلب التقنية في حالة داعش إلى ضدها لتصبح قيداً على التنظيم؛ إذ إن التحول إلى دولة سوف يدفع القائمين عليها إلى تشكيل منظور أمني، محوره هو المحافظة على بنية الدولة لتأمين استمرارية وجودها. وبالتالي خلق عقيدة أمنية تحدد العدو من الصديق، وسيكون مضمونها أن العدو هو ما يشكل تهديداً على الدولة وليس على الإسلام على سبيل المثال.
وبالتالي سيكون الهاجس الأمني هو المحافظة على بنية الدولة فوق أي اعتبار آخر. الأمر الذي سوف يقلص دائرة الأعداء، من أجل المحافظة على بنية الدولة، من خلال توسيع دائرة المناصرين والأصدقاء. وهذا كله سيؤدي إلى البحث عن أساليب وطرق مقبولة في العرف الدولي، والتعامل الإنساني. فالدولة كتقنية سياسية حديثة للضبط والتحكم ، تفرض ذاتها على تنظيم داعش بصرف النظر عن الخلفية الأيديولوجية للتنظيم.
وتأسيساً على ما تقدم، يمكن القول إن تنظيم داعش وجد لكي يبقى، ومع ذلك فإن المنطق الأخلاقي السليم يقتضي القول إن تنظيم داعش يحمل بذور فنائه. وهو ليس مؤامرة غربية، ولكنه حدث محلي يوظف، ويستثمر، ويعاد إنتاجه لأغراض ووظائف وترتيبات جزء من الغرب( أجهزة الضبط والسلطة والهيمنة والسيطرة) ليس بريئاً منها. لا يتعلق استمراره أو فنائه بمحرضات أخلاقية بقدر من صراع التقنيات.