يقوم النظام العولمي الجديد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية على ركن بسيط يستند إلى مبدأ "العنف"، فالإمبريالية الأمريكية كقوة تسلطية عولمية عنيفة تشبه "عراب المافيا" إلا أنها أشد قسوة وأوسع انتشارا وأبلغ أثرا، والأهم أنها تتمتع بالصفة القانونية وتتحكم بالسيادة الدولية والحماية الذاتية، وكما هو شأن "العراب" بحاجة دوما إلى مقاولين مناطقيين صغار لتحصيل الفوائد ومنع التمرد وضمان النفوذ.
وفي الحالة الإمبريالية فإن
الدكتاتورية ضرورة حتمية، فعلى مدى عقود طويلة تحالفت الإمبريالية مع القوى الدكتاتورية واقعيا وموضوعيا، فالولايات المتحدة كقوة إمبريالية بحاجة دوما للدكتاتور عدوا وصديقا، ففي حالة الصديق الدكتاتور تؤمن مصالحها الحيوية بأقل التكاليف لضبط "الرعاع" الحالمين بالديمقراطية والحرية والعدالة والكرامة، وتمده بالشرعية القانونية الدولية والمساعدات المالية والعسكرية اللازمة لتأمين الاستقرار، وتترك له حرية القمع والاستئصال لمعارضيه.
وفي حالة العدو الدكتاتور تعمل القوة الإمبريالية على وصمه بالشر وتخريب الأمن والاستقرار العالمي وتحاصره وتشن عليه الحرب جاعلة منه عبرة لمن يتجرأ من الدكتاتورين الأصدقاء على التمرد على "العراب"، وفي هذا السياق يصبح "
الإرهاب" صناعة رابحة وسلعة رائجة للإمبرياليين والدكتاتوريين معا.
لا ترغب الولايات المتحدة الأمريكية بتعريف نفسها كدولة إمبراطورية إمبريالية رغم تلبسها الاستعماري المنظور ومبدأ مونرو المشهور، وتاريخها الحربي المشخص، ومع ذلك فقد دعا المحللون البريطانيون أمثال روبرت كوبر المستشار الأوروبي ومستشار رئيس الوزراء البريطاني توني بلير إلى "نوع جديد من الإمبريالية" تتحمل فيه الدول الغربية "المسئولية السياسية لمناطق الفوضى ... فيبدو وكأننا جميعا إمبرياليون الآن"، أما تعريف لينين للإمبريالية بوصفها "المرحلة الأخيرة للرأسمالية" والتي من أهم خصائصها هيمنة رأس المال والاحتكار المالي الذي يتطلب من الأسواق الأجنبية أن تتوسع وتزود أرباحها، فقد تبدلت الأحوال مع التقلب المستمر للرأسمالية العالمية منذ عصر اللعبة الكبرى الأولى.
تقوم الإمبريالية كإيديولوجية رأسمالية توسعية على مبادئ المافيا الأساسية باستخدام القوة لفرض هيمنتها وسيطرتها على الآخرين ونهب ثرواتهم، كما هو حال "العراب"، مع شبكة اللصوص، فبحسب أندرو غافن مارشال: إذا كانت الولايات المتحدة لا تتدخل لسحق التمرد والانتفاضات والثورات عموما، أو تقوم بإدارة اتجاه "الصراعات الداخلية" في دول العالم الثالث، فإن الحكومات الموالية في جميع أنحاء العالم ستفقد ثقتها في قدرة العراب/ الإمبراطورية على دعمها في الحفاظ على ديكتاتورياتها وحكم شعوبها اذا ما وقعت في ورطة. وهذا من شأنه أيضا أن يقضي على "الاعتقاد السائد" بأن العراب أو (حلفاء الإمبريالية الغربية مثل فرنسا وبريطانيا) سيحصلون على دعم الولايات المتحدة لخدمة مصالحهم الإمبريالية. إذا كانت الدول العميلة أو الحليفة للإمبراطورية قد فقدت الثقة في العراب، فعلى الأرجح أن لا تبقى الولايات المتحدة في خانة العراب لفترة طويلة.
لقد ظهرت الجهادية كرد فعل على الإمبريالية والدكتاتورية، فقد بدأت كحركات محلية مسلحة مناهضة للدكتاتورية في العالم العربي حيث دشنت استراتيجية "أولوية قتال العدو القريب"، وبرزت بصورتها العالمية المناهضة للإمبريالية عبر استراتيجية "أولوية قتال العدو البعيد" مع تنامي ديناميكية العولمة عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية، حيث كانت تؤسس لمنظومة جهادية متحدة تسعى إلى رفع الهيمنة الغربية عن المنطقة العربية والإسلامية، من خلال بناء إيديولوجية خطابية مناهضة للعولمة وتبني استراتيجية قتالية تقوم على النكاية ودفع صائل العولمة العسكرية الأمريكية، التي عملت على دعم وإسناد الأنظمة السلطوية في المنطقة التي تآكلت شرعيتها التقليدية وحولت دولها إلى ثكنة عسكرية ومخافر بوليسية قمعية.
عقب قمع ثورات الربيع العربي التي كانت تهدف إلى تمكين الديمقراطية والحرية والعدالة وبناء دول ومجتمعات متمردة على السياسات الإمبريالية والدكتاتورية والدخول في أفق الاستقلال والكرامة والتحرر والنهضة، باتت الإمبريالية وربيبتها الدكتاتورية أشد توحشا وأكثر دموية، وأصبحت صناعة "الإرهاب" مدخلا لإعادة بناء التاريخ الإمبريالي والدكتاتوري التسلطي القمعي، الأمر الذي دفع الجهادية العالمية إلى طرح استراتيجية "اندماج الأبعاد" بالجمع بين قتال العدو البعيد والقريب، وهي حقبة لا تزال في فصولها الافتتاحية.
لا تختلف الإمبريالية الأمريكية الحديثة نوعيا عن الإمبرياليات الاستعمارية التقليدية، وهي تتطابق مع السيرة التاريخية للرأسمالية والليبرالية، ففي سياق حدث الحادي عشر من سبتمبر 2001 كتب هومى بابا مشددا على هذا التلازم قائلا: إن تحولات قرننا الكوكبي هذا تشكل جزءا من مسيرة أطول من التآكل والهشاشة، تعود بنا إلى مرحلة أقدم فى الحكم الكوكبي، وهى مرحلة الإمبراطوريات الاستعمارية، فمع عودة الليبرالية الجديدة للظهور بعد الحرب الباردة، أصبح من الأهمية بمكان أن نتفهم تماما عدم التحقق الداخلى لهذه الأيديولوجية الكوكبية، وأن نحدد تسلسلها الاستعماري، فقد توصل الفيلسوف الليبرالى العظيم جون ستيوارت مل، على سبيل المثال، إلى أن إحدى المعضلات الكبرى فى نظريته الشهيرة عن الحرية تتمثل فى حقيقة أنه كان ديمقراطيا فى بلده، وطاغية فى بلد آخر، هو الهند فتحمل مسئولية هذا الميراث المزدوج أو المتشعب يتطلب نقدا تعديليا للديمقراطية كأيديولوجية غزو، أو كأداة سياسية في ثقافة التملك الاستعمارى، في أدبيات الثقافة البريطانية وما يجب أن نعترف به، وهو ما لم يستطعه مل فى وثيقته العظيمة عن الديموقراطية الحديثة ـ عن الحرية ـ هو ملابسات التناقض الذاتى للديموقراطية الليبرالية التى تستعر بداخلها دائما صورة الحرب.
لقد تحولت سياسات "الحرب على الإرهاب" إلى صناعة إمبريالية مستدامة للسيطرة والنهب لا نهاية لها، ففي أيار/ مايو عام 2013، أدلى مايكل شيهان، مساعد وزير الدفاع الأمريكي للعمليات الخاصة والصراعات منخفضة الشدة، بشهادته أمام لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ، وقد سئل إلى متى ستستمر "الحرب على الإرهاب"، فأجاب: "لما لا يقل عن 10 إلى 20 عاماً"، وقد أوضح المتحدث باسم البنتاغون في وقت لاحق أنه كان يقصد أن "من المرجح ان يستمر الصراع من 10 إلى 20 عاما – بالإضافة إلى 12 عاما استمرها الصراع سابقا" وبعبارة أخرى، وعلى حد قول وزارة الدفاع الأمريكية، على العالم أن يتطلع إلى عقدين أو أكثر على الأقل من حرب امريكا على الارهاب العالمي.
إن التلازم بين الإمبريالية والدكتاتورية نهج راسخ للولايات المتحدة الأمريكية، فقد أشار تقرير لمجلس الأمن القومي الأمريكي صدر في عام 1958 إلى أن "الولايات المتحدة في نظر الغالبية العظمى من العرب لا تزال تبدو معارضة لتحقيق الأهداف القومية العربية"، وهي بدلا من ذلك، تسعى ببساطة "لحماية مصالحها المتمثلة في نفط الشرق الأدنى من خلال دعم وتكريس الوضع القائم" للأنظمة المستبدة الحاكمة والقوية التي تمارس القهر والكبت على الشعوب. ويشير التقرير أيضاً إلى أن هذه وجهة نظر دقيقة، وأن الشعوب العربية تعبر عن علاقاتها بالولايات المتحدة كالتالي: "من الطبيعي ترتبط مصالحنا الاقتصادية والثقافية في المنطقة ارتباطا وثيقا بالولايات المتحدة، في ظل وجود عناصر في العالم العربي همها الأساسي هو الحفاظ على علاقاتها مع الغرب للمحافظة على الأوضاع الراهنة في بلدانهم". وفوق هذا وذاك، فالولايات المتحدة كانت متحالفة بشكل وثيق مع القوى الاستعمارية التقليدية في المنطقة - فرنسا و بريطانيا، ويحسب التقرير: "من المستحيل بالنسبة لنا تجنب تعريف أنفسنا خارج دائرة القوى الاستعمارية، خصوصا وأنه لا يمكننا استبعاد إمكانية أن نلجأ إلى استخدام القوة في محاولة للحفاظ على مكانتنا في المنطقة.
مع نهاية الحرب الباردة بحثت الولايات المتحدة عن عدو دائم ووجدت ضالتها بمفهوم "الإرهاب"، وهو اسم مفروض غير مفترض تحدده سلطة القوة وفق المصالح القومية، ففي أحد تبصرات إقبال أحمد عام 1998 قال: "أسامة بن لادن يشكل مؤشرا على أشياء ستأتي"، وعندما طلب منه بارساميان أن يوضح ما ذهب إليه، قال إقبال: "لقد غرست الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا بذورا سامة جدا هي الآن في طور النمو، بعضها نضج وبعضها لم يزل في طور النضوج، ونحن نحتاج إلى فحص الأسباب وراء غرسها وما الذي تمخضت عنه وكيف ينبغي أن تحصد. إن الصواريخ لن تحل المشكلة"، كما لاحظ إدوارد سعيد أن الإرهاب أصبح بمثابة ستار تمت صناعته منذ نهاية الحرب الباردة على أيدي صناع السياسة في واشنطن، شأنهم شأن مجموعة كاملة من الناس من أمثال صامويل هنتنغتون وستيفن إميرسون والذين يملكون حصتهم من ذلك الإصرار. وقد تم فبركة المسألة لإبقاء السكان خائفين، غير آمنين، ولتبرير ما ترغب الولايات المتحدة فعله على سطح الكوكب. وبهذا، فإن أي تهديد لمصالح الولايات المتحدة، سواء تمثلت بالنفط أو بمصالحها الجيو ـ استراتيجية في أي مكان آخر، أصبح يوصم بالإرهاب، وهو بالضبط ما دأب عليه الإسرائيليون منذ أواسط السبعينيات فيما يخص المقاومة الفلسطينية لسياساتهم، ويؤكد سعيد على أن كل تاريخ الإرهاب يجد جذوره في السياسات التي انتهجتها الإمبريالية، فقد استخدم الفرنسيون كلمة "الإرهاب" لوصف كل شيء قام به الجزائريون لمقاومة الاحتلال الفرنسي الذي بدأ عام 1730 ولم ينته حتى عام 1962 كما استخدم البريطانيون الفكرة ذاتها في كل من بورما وماليزيا، ليخلص إلى تعريف طريف ودقيق للإرهاب، بحيث يصبح "هو أي شيء يقف في وجه ما نرغب "نحن" في فعله". وبما أن للولايات المتحدة، وهي القوة العالمية العظمى الوحيدة، مصالح أو هي تتظاهر بأن لها مصالح في كل مكان، فإن الإرهاب يصبح أداه ملائمة لإدامة هذه الهيمنة وتأبيدها. وينظر إلى الإرهاب الآن بوصفه مقاومة للعولمة، وثمة إصرار على إقامة هذه الصلة، مستشهدا هذه المرة بالذي صدر عن أروندهاتي روي (ناشطة هندية شهيرة)، والتي لاحظت بأن القوى الغربية تهرول نحو وصم حركات المقاومة التي تقوم بها الشعوب ضد الحرمان، ضد البطالة أو ضد هدر الموارد الطبيعية.. بالإرهاب.
على الرغم من الخطابات البلاغية المتواترة من سدنة الإمبريالية والدكتاتورية بالتفريق بين "الإسلام" و"الإرهاب"، إلا أن سياسة الحرب على الإرهاب مشبعة بالأثر الاستشراقي الجامع بين المفهومين عبر التسمية الاستشراقية الرائجة حول "الإرهاب الإسلامي" ، فالغرب كما يشدد إدوارد سعيد في كتابه "تغطية الإسلام": "لا يرى في المسلمين أكثر من مشاريع إرهابيين أو مزودي نفط... ومعرفة الغرب بالإسلام والشعوب الإسلامية ليست وليدة الهيمنة والمواجهة فحسب، وإنما أيضاً ثمرة لثقافة كراهية غريزية".
لا نحتاج إلى تدقيق كبير في تبيّن الصلة بين الإمبريالية وحرب الإرهاب، فقد ظهرت جليا عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد أقر مايكل إجناتيف في مقالة شهيرة بمجلة (نيويورك تايمز) بتاريخ 28/7/2002 بالقول: "إن حرب أمريكا على الإرهاب ليست سوى نوع من ممارسة الإمبريالية، أو سعي لتكوين إمبراطورية. قد يبدو هذا القول صدمة للأمريكيين الذين لا يرغبون لبلادهم أن تكون إمبراطورية. ولكن ماذا تسمى كل تلك الفيالق من العسكر والقوات الخاصة المنتشرة في كافة أصقاع العالم؟"، كما أكد ماكس بوت في صحيفة (وول ستريت جورنال) على ذلك بقوله: "إن جرعة من الإمبريالية قد تكون أفضل رد على الإرهاب".
خلاصة الأمر أن "الإرهاب" بات صناعة إمبريالية دكتاتورية رائجة لضمان التحكم والسيطرة والنهب والتخريب، وأداة لمنع خيارات التحرر والاستقلالية والديمقراطية والحرية والعدالة والكرامة، فهوية "الإرهابي" ذاتية غير موضوعية يمكن التلاعب بها حسب رغبات مسيري شؤون الهوية من الإمبرياليين وزبانيتهم الدكتاتوريين، وبحسب الصديق العزيز جوزيف مسعد: من يعرف تاريخ الإمبريالية الأميركية في العالم العربي، وسجل الاستبداد المحلي، فإنّه لا بدّ قد فهم، ودون أدنى شك، أنّه تم تصميم هذه الخيارات في محاولة لمنع ظهور خيار ثالث مركزي. وبخلاف فريد هاليداي وأتباعه العرب وغير العرب من المروجين للإمبريالية، فلسنا مضطرين البتة إلى حصر خياراتنا في ما بين
الامبريالية والفاشية. فلدينا خيار ثالث لطالما أثبت جدواه وهو أقل كلفة مهما عظمت التضحيات، ألا وهو النضال ضد الاستبداد المحلي والإمبريالية الأميركية معاً (وهما في معظم الحالات القوة نفسها) ومن أجل الديموقراطية والعدالة الاجتماعية اللتين ترعرعتا محلياً.