ثم دخلَ العامُ التسعون من بعد تِسعِمائة وألفٍ من تاريخِ ميلاد الرَّسُولِ المُكَرَّمِ عيسى بنِ مَرْيَمَ عليْه وعلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلام، وهُو مَطْلَعُ العَقْدِ الأخير مِن تَمام الألْفيْن وبِئْسَ المَطْلَعُ والتَّمام؛ فَقَد اسْتُهِلَّ بِغَزْوِ حاكِمِ العِراقِ لِدُوَيْلَةٍ مُجاوِرَة وجَرَّ معَ غَزْوِه الوَبالَ والوَباء، وانْفَرَطَ عَقْدُ الأُمَّةِ عَلى انْفِراطِه، وما مِن واقِعَةٍ تَكالَبَ فيها حُكَّامُ الأَمْصارِ على ابْتِغاءِ رِضا الفِرِنْجَةِ كَمَا اتَّفَقَ في تِلْك الأيَّام.
بدأَتْ الوقائِعُ في نهاية العام الأوَّلِ مِن ذلك العقد بالغَزْو المَذْكور، وفي أوَّلِ عامِهِ الثَّانِي تَحالَفَ ما يَرْبُو على ثلاثين دولة لِتَحْرِيرِ الدُّوَيْلَة منهم مِصْر والشَّام، وفَعَلَتْ الشّام ذلك -مع زَعْمِها أنَّها نَصيرَة لِلْجِهاد- ابْتِغاءَ تَخْفيفِ ما حَاقَ بها مِن تَخَلُّفِ نَصيرِها الإفْرنْجِيّ الشّرْقِيّ بعد تَفُكُّكِ اتّحادِه، فيَمَّمَ حاكِمُ الشّامِ وَجْهَهُ شَطْرَ أعْداءِ الأَمْس وتَحَالَفَ معهم ضِدّ الحاكِمِ الغَاصِبِ المُسْلِم، وما عَهِدَتْ الدُّنْيا إقْبالًا كهذا لغَوْثِ دَوْلِةٍ لا دُوِيْلَة، فَبَانَ أنَّهُ تَكَالُبٌ لا انْتِصَاف.
واجْتَمَعَ أَلْفُ أَلْفٍ لحَرْب طاغِيَةِ العراق فَدَكّوا المُدُنَ وهَدَمُوا المَأْوَى وشَرَّدُوا الأهْلَ، ثُمَّ انْسَحَبَ الطَّاغيةُ ولمْ يَنْسَحِبْ أَمْرِيكانُ الفِرِنْجَة -الذينَ قادوا الحَرْب ضدَّه- واسْتَوْطَنُوا بطَلَبٍ من الحكّامِ وأقاموا عَسْكَرَهُم للْاحتِماءِ بهم من المسلمين حتى يومِنا هذا، وكانوا قدْ اتَّفَقوا معَ حاكِمَيْ مِصْرَ والشّامِ على البَقاءِ والحِمايَة، إلا أنّهم آثَرُوا صُحْبَة الفرنجة والاسْتِعْبادِ لهم ولا يكون العِرْفانُ لِبَنِي جِلْدَتِهِم، فخرج عَسْكَرُ مصر بعد المُعاهَدَة بشهريْن، وكُلُّ بَلِيَّةٍ وَقَعَتْ فإنّما هي من فَضْلِ ذلك العُدْوان وتلك الإقامة.
وفي ذلك العقد بدأَتْ الأُلْفَةُ تَسْري بين حكّام الأَمْصار و"اليَهود" وكانوا قد نَفَوْا مِصرَ قبْل ذلك من اجْتماعِهِم لاتْفاقِ مَهانَةٍ أبْرَمَتْهُ مع محْتَل غاصب، إلا أنّ النّفْي زالَ قبيل دخوله بأشهر، وظنّ المساكين أنّهُ رَتْقٌ للصَّلاح، وما دَرَوْا أنّه رَتْقٌ لاتِّساع الفَتْقِ من بعدُ.
وفيه طَرَحَتْ جماعةٌ من بيْتِ المَقْدِس السّلاح وهَادَنَتْ الغُزَاةَ الغاصبين، وأقاموا اتِّفاقِيَّة بِبَلْدَةٍ تُدعى "أُوسْلُو" في العام الثالث والتسعين تعهَّدوا فيها بِطَرْحِ السلاح وإقامة الأفْراح، ابْتِهاجًا بوقف الجِهاد والتَّسْلِيم بِتَرْك الأرْض ونَبْذ الاقْتِصاص للعِرْض، وكان على رأسِهِم رجلٌ يُدعى ياسر عرفات، وكان مجاهِدًا ثم ذَلّ، وتَبِعَتْهُم مملكةُ الأشْراف المُنْتَسِبَةُ إلى بني هاشم، إلا أنّ شَرَفَ النَّسَبَ خَالَفَ وَضاعَةَ الفِعَال؛ فتصالحوا مع "اليهود" بعد عامٍ من بَلِيَّة المقْدسيين، وكان مَلِكُهُم قد سانَدَ حاكمَ العراقِ في عُدوانِه، فلما انْهزَم العراقيّ أقبل المَلِكُ على التَّزَلُّفِ للفرنجة المنتصرين، وكانتْ أعْظَمُ زُلْفَى مُهادَنَة "اليهود"، فَهَادَنَ وما ارْعَوَى لجَلالَةِ النَّسَبِ الشريف، أو لجُرْمِ الغاصبين.
وفيه عَمدَ الفرنجة إلى عدم ذِكْر لفظ "الوطن العربي" مستَقِلًّا وأبْدَلُوه ذكر ما يُدعى بـ "الشَّرْقِ الأَوْسَط" ليشْمل لفْظُهُم دولة "اليهود"، فلا يَنْفَكُّ رَسْمُهُمْ عن رسمِنا، ولا مصيرُهم عن مصيرِنا، وانْساق من ادَّعى التَّنْوير لذلك فأَظْلمَتْ العقول واستقرَّ الوصفُ على فَدَاحَتِه وظُلْمَتِه.
وفيه جَنَى الأَقْصى جَزاء ما أوْرَدْناه، فبقاء الأمْريكان بشِبْهِ جزيرة العرب للحماية اسْتَدْعى الامْتِثالَ لأَمْرهم ونهْيِهِم وإلا ارْتَفعتْ الحماية، وما أقْدَم عليه عرفات وزُمْرَتُه من مصالحة جَعَلَ همّ الجهاد والتَّحْرير غير مطْلَقٍ لأُمَّة الإسلام، بل قالوا أنّ للأرْضِ مَن يَذُودُ عنْها فصار الجهاد شأْنًا خاصًا بالمقْدسيين، واليومَ أصبح ببعضهم لا كلهم حتى رأيْنا النِّساءَ والشُّيوخَ يقفون على أعْتَابِه مُرابِطين لايضُرُّهُم مَنْ خَذَلَهُم، وكأنّ أُمَّة الإسلام فَقَدَتْ رجالها.
وفيه اجَتَمَعَ "اليهود" الغاصبين مع جَمَاعات من حكّامِ وتُجَّارِ العرب في ثلاثة أعوامٍ متصلة بَدْءا من العام الرابع والتسعين بالدَّار البَيْضَاء ثم بعَمَّان ثم بقاهِرَة المُعِزِّ التي أَذَلُّوها بمَقْدم المعْتدِين، وقامتْ بين حكَّام العرب ودَوْلَتِهم الأُلْفَة وما وَقَعَ مثْلها لأهْلِ النَّكْبَة والأرض المُغْتَصَبَة، وبدأتْ المغربُ ذلك في عام اجتماعهم التجاريّ الأوّل، وكان سَبَق ذلك زيارة كبير وزراء "اليهود" للمَمْلَكَة، ثُمَّ تَبِعَتْها دولةٌ على أطْرافِ الجَزِيرَة يَحْكُمُها سُلْطان انْتَزَعَ المُلْكَ من أبيه قسرًا اسمه قَابُوس، ثمَّ أقْدَمَ حاكِم القّيْرَوَان على مِثْل ذلك ثم حاكم الجَزَائِرِ وكَذَا بَلَدُ الحَفَظَةِ التي تُسَمَّى مُورِيتَانْيا، وأَجْرَت دُوَيْلَة تُدْعى قَطَر اتَّفاقا للتجارة فاقَ مَثِيلَه في ذلك الزَّمانِ لأَجْل إرْسال ما يَعْتَاشُ به "اليهود" من غَازٍ مُسْتَخْرَجٍ من باطِنِ أرْض المسلمين، كُلُّ ذلك جَرى مِن بعد اتفاق الفلسطينيّ في العام الثالث والتسعين من بعد ألف وتِسْعِمائة.
وفي السَّنة الخامسة منه (1994) أوْقَفَ حاكمُ أرض الحِجَاز المُقَدَّسَة ومَن جَاوَرَها من البلدان في تحالف أَسْمَوْه الخَلِيج العربي، أَوْقفوا وضْع مُؤسسات التُّجار الذين كانوا يتعاملون مع دولة "اليهود" على صَحِيفَةٍ تَعَارَفَ أهْل الزَّمان على تَسْمِيَتِها بـ "القَوَائِم السَّوْدَاء"، وكان ضَرَرُ الإبْقاء عليها يَبْلغُ خسارة عُشْر ما يَرْتَزِق منه أبناء يهود، فازْدَهَرَ حالُهُم، وأقْبَلَ الشَّرْقُ والغرب في الاتّجَار معهم ونَمَتْ تجارَتُهم بِمَا فاقَ ستّة أضْعاف ما كان لَدَيْهِم قبْل مَقْدمِ ذلك العَقْد، وما قَدّم أهلُ الحكمِ شيئًا لأهل النَّكْبَة والولايَة والأُخُوَّة على تَطَاوُلِ مُلْكهم وقُدْرَتِهم، وانْفِساح أمْوالهم وخَرَاجِهم، كما قدّموا ليهود.
وفيه ذَهَبَ حكّامٌ ورُسُلٌ لعَزاء ِالغُزاة المعتدِين في مقْتل كبير الوزراء وكان يُدْعى رَابِين، وكان مْجرمًا شاركَ في الحروب الأُولى لاغْتِصاب الأرض، وقَتَلَه رَجُل منهم، وما وجَدْناهم ذهبوا للعزاء في مَقْتل مُجَاهد.
وفيه انْتَقَلَ مَنْ رَضِيَ عنْه الحَقُّ والخَلْق، بَهْجَةُ الدِّينِ وإمامُ المُفَسِّرين مُحَمّدُ بنُ أمين الشَّعْرَاوِي قَدَّسَ اللهُ سِرَّه ونَفَعَنا بِعُلُومِه في الدَّارَيْن، وما أَعْظَمها من بَلِيَّة إذْ ثُلِمَ بها الإسلامُ ثُلْمَةً وإنَّا للهِ وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُون.