منذ الصغر كنت أستمتع بشعر الراحل نزار قباني، الغزلي والسياسي.
كانت مشكلتي مع شعر نزار السياسي أنني لا أشعر فيه بجرعة الصدق التي تأسرني في شعره الغزلي.
كنت أشعر أنه يقول ربع أو عُشر ما عنده، وأنه يختار مواضيعه بعناية لكي يهجو دون أن يسجن، لكي يدخل معارك كبيرة دون أن يصاب بخدش واحد، لكي يحصل على لقب الفارس دون أن يغامر بالدخول في نزال حقيقي.
لذلك تجد نزار قباني رحمه الله يهجو الشعوب العربية، ويحملها مسؤولية الأزمات والمصائب العربية دون حساب، وقد انجرف خلف هذه الطريقة المجانية في الهجاء، لأنها لا عواقب لها، وهذا الأسلوب حقق جماهيرية عظيمة لأشعاره، ودون أن يشعر تحولت بعض قصائده إلى ما يشبه الهجاء (العنصري) في الأمة العربية، وأصبحت بعض قصائده وكأنها مصابة بداء (التمييز) ضد العروبة نفسها، وهو ما درسه واشتغل عليه الناقد المعروف جهاد فاضل في كتابه الشهير – الذي أغضب نزاراً كثيراً – كتاب (فتافيت شاعر).
نزار قباني، شاعر هجا الأمة العربية كثيراً، وهجا الحكام قليلاً، خلاصة أشعاره السياسية من الممكن أن تقرأها في :
(بِكَعْبِ الحذاءِ تُدارْ ..
فلا من حكيمٍ ..
ولا من نبيٍّ ..
ولا من كتابْ .
بلادٌ ..
بها الشعبُ يأخذُ شَكْلَ الذُبابْ !!)
حين تحرر نزار قباني من خوفه مؤقتاً بعد النكسة، وتحدث عن الحاكم في قصيدته الشهيرة (هوامش على دفتر النكسة)، كانت من أفضل ما كتبه في السياسة، بل هي في رأيي أفضل قصيدة سياسية كتبها طوال حياته.
حين كبرت، قررت أن أسمي الأمور بمسمياتها، وقررت أن لا أفعل مثلما فعل نزار، لن أهجو الطرف الأضعف، بل سأقول ما عندي وأدفع الثمن، لذلك قررت هجاء الحكام !
لماذا أقول هذا الكلام الآن؟
السبب هو أن هناك نغمة في مصر بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013، تعلو يوماً بعد يوم تقول (إن الشعب المصري شعب لا يستحق الديمقراطية، ولا يستحق إلا الكرباج، شعب يقبل الذل، ولا يستحق التضحيات التي قدمها الثوار، ولا التي قدمها الإسلاميون).
جميع فصائل السياسة في مصر اليوم وبرغم كل خلافاتها، تجمع على رذيلة واحدة هي (شتم الشعب المصري العظيم، ووصفه بكل النقائص، لكي يبرروا الفشل المرحلي الذي تمر به ثورة يناير) !
هؤلاء الثوار على اختلاف توجهاتهم يرون أن الشعب قد وقف ضدهم، بعضهم يرى الشعب قد وقف ضد الثورة بانتخاب الإسلاميين، وبعضهم يرى أنه وقف ضد الثورة بتأييد قمع العسكر للإسلاميين، وكل ما سبق في نظرهم خطيئة تجعل الشعب غير مستحق لتضحياتهم، وتجعل ممن يضحي من أجل هؤلاء (الرعاع) إنساناً ساذجاً، يضيع عمره في قضية خاسرة.
والحقيقة أن جميع شعوب الدنيا قد فعلت ذلك، ومن يتصور أن الشعب المصري فقط هو من اضطهد الذين حملوا لواء الإصلاح، وقدموا التضحيات فهو ساذج، لا يعرف شيئاً من تاريخ البشرية.
جميع الأنبياء –على سبيل المثال– حاربهم أقوامهم !
من الذي اضطهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟
الفرس والروم؟
لقد اضطهدته قريش أولاً، أقرب الناس له، وأخرجوه من مكة، وحاربوه في المدينة.
من الذي اضطهد أنبياء بني إسرائيل؟
إنهم بنو إسرائيل، ووصل الأمر إلى حد قتل الأنبياء.
من الذي قتل غاندي؟
إنه رجل هندي، من الشعب !
وإذا استرسلنا سنذكر عشرات بل مئات الأمثلة.
من يقرأ تاريخ الثورة الفرنسية سيجد أن رموز الثورة الذين حملوا على الأعناق في مرحلة ما، كانت نهايتهم المقصلة، أو القتل والسحل على أيدي الجماهير التي حملتهم على الأعناق بالأمس القريب.
الإنسان عدو ما يجهل، وكل دعاة التغيير يأتون للناس في ظرف زمني صعب، ويعدونهم بالمجهول، وضريبة الثورة كبيرة، وثمن التغيير دائماً مرتفع، لذلك من الطبيعي أن يقف الناس ضد النخب التي تطالب بالتغيير، تماماً كما حدث مع الأنبياء والمصلحين.
وكلما استقر الاستبداد لفترة أطول، كانت مقاومة الناس للإصلاحيين من بني جلدتهم أكبر.
صحيح أن هناك تحديات خارجية، وأصابع دولية وإقليمية، ولكن التحدي الأول هو أهلنا وشعبنا.
بعض الدول التي عرفت تغييرات سياسية في العصر الحديث خرجت من ماضيها بصعوبة شديدة، فعلى سبيل المثال بعض دول أوروبا الشرقية التي قامت فيها ثورات في أوائل تسعينيات القرن الماضي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، هذه الشعوب حين حظيت بانتخابات حرة سليمة، انتخبت قيادات الأحزاب الشيوعية نفسها التي حكمتها بالظلم والقمع تحت حكم السوفييت، بل إن بعض هذه الدول ظلت تنتخب هؤلاء عدة استحقاقات متتالية !
وبرغم كل ما قلته إلا أن الشعب المصري لم يتعامل مع ثورة يناير بنذالة كما يعتقد كثير من الثوار، بل العكس هو الصحيح.
لقد أعطانا هذا الشعب ثقته في استحقاقات انتخابية (كان ذلك عملاً ثورياً أدى إلى عزل الفلول)، وأعطانا ثقته في مليونيات كثيرة جداً، وهذه المليونيات هي التي أزاحت وزارة شفيق، ووضعت مبارك في السجن، وأتت بالانتخابات الرئاسية (أحداث محمد محمود)، وهي التي أدت إلى كثير من إنجازات الثورة.
وما زال هذا الشعب حتى اليوم يقاوم الانقلاب العسكري بالنزول إلى الشارع، وبشتى أشكال المقاومة المبدعة، كل ذلك شئنا أم أبينا يحسب لهذا الشعب.
لقد أعطانا الناس فرصة خلف فرصة، ولكننا لم نتمكن من تحقيق أي مكاسب تذكر لهؤلاء البسطاء.
التصرف السليم أن ندرس ما حدث، وأن نتعلم منه، وأن نعرف جيداً أن الثورة لا بد أن تنعكس بشكل إيجابي فوري على حياة الناس، وأننا أخطأنا بترك صوت الثورة المضادة أعلى من سائر الأصوات، فهذا خطأ لا يغتفر.
شعب مصر بعد ستين عاماً من حكم العسكر ما زالت فيه بذرة خير تأبى أن تموت، وما زالت غالبية هذا الشعب تتوق إلى تغيير حقيقي، يحقق العدل، ويطبق المساواة، ولكنهم لا يجدون من يطمئنهم، ولا من يثقون فيه لكي يسيروا وراءه.
لا تسبوا الشعوب، ولا تتهموها بالغفلة، ولا تستغربوا من مقاومتها لكم برغم حبكم لها، فلستم أفضل من الأنبياء والرسل، ولستم خيراً من سائر المصلحين الذين اضطهدهم أقوامهم.
فلنحاول أن نرى حقيقة عيوبنا، وأن نجيب على الأسئلة الصعبة، لماذا انتصرت الثورة المضادة في هذه الجولة؟ وكيف سننتصر نحن في الجولة القريبة القادمة؟ وكيف نكتسب ثقة الناس؟ وكيف لا نسمح لأي قوة خبيثة أن تخطف ولاءهم من الثورة إلى الثورة المضادة؟
أمامنا الآن ثلاثة أطراف ... الشعب، والحكام، والثوار، والسؤال المطروح : أين الخلل؟
والإجابة : الحكام لا خير فيهم، إنهم أعداء الأمة !
أما الثوار : فهم في مرحلة هي مزيج بين العجز والتعلم، وسوف يخرج منهم الكثير، وسوف تتقدم الأمة المصرية على أيديهم.
أما الشعوب : فهي مغلوبة على أمرها، تتوق للتغيير، وتتمنى أن ترى قيادات حقيقية تقودها للخير.
ما أسهل هجاء الشعوب، وما أصعب هجاء الحكام، وقد يكون أصعب منه (هجاء النفس) !
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين ...
موقع إلكتروني: www.arahman.net
بريد إلكتروني:
[email protected]