مرت الثورة
المصرية بحالات كثيرة تبدو متناقضة، ومر الشعب المصري الذي قسمه
الانقلاب العسكري الدموي بحالات تراوحت بين هبوط الشعور بالأمان والاستقرار وارتفاعه لفترات أقل لكلا الطرفين المؤيد للانقلاب العسكري والرافض له ولاستمراره، وطرحت أسئلة كثيرة بعضها من مخلصين وبعضها من مغرضين!
أعتقد أن أهم هذه الأسئلة هو: هل سيبقى الرافضون للانقلاب العسكري في مظاهراتهم دون رؤية سياسية أو تصور لإنهاء هذا الانقلاب وعودة المسار الديمقراطي والحرية للشعب المصري كله! وقد أثار مثل هذه التساؤلات ظهور مبادرات كثيرة منذ بداية أيام الانقلاب الأولى وفي رابعة وما بعدها؛ فقد تكررت مبادرات كان أصحابها تحت تأثير قوة العسكر رغبة أو رهبة، وقد تم رفض معظمها بالمناسبة من الطرفين! وقد كان هناك موقف مبدئي من كل المبادرات التى طرحت، تمثل في الإصرار على عودة المسار الديمقراطي وحمايته، وعدم التنازل عن حقوق الشهداء، وإقرار العمل لتحقيق أهداف
ثورة 25 يناير، وللتاريخ، فقد تم التعامل بروح إيجابية مع عدد من المبادرات التى استشعرنا فيها الصدق مثل مبادرة العلماء (البشرى والعوا وسيف عبد الفتاح)، مبادرة دولية فى رابعة هدفها فقط إيجاد مناخ يصلح لإجراء مصالحة، والثالثة مبادرة حكماء الاتحاد الأفريقي، ولم تقبل سلطة الانقلاب العسكري أيا منها!
ولا ننكر أن هناك اتجاها يجد أن فرص المعالجة السياسية التي تقر بالواقع بعد 3 يوليو (الانقلاب العسكري) باتت مستحيلة بعد كل هذه المجازر وكل هذه الدماء والانتهاكات في حق أبناء الشعب المصري المقاوم للاستبداد والظلم! وفى ظل الغياب الذى تبدى في الحياة السياسية لرجال سياسة حقيقيين بعدما شارك معظمهم فى الإعداد للانقلاب ودعمه، وشاركوا فى التفويض لقتل المصريين، خاصة المنافسيين السياسيين لهم، بدم بارد، فقد حدث فراغ سياسي لم يتمكن العسكر من ملئه! وهذا صعّب من فرص إجراء أى حوار أو تحقيق أي مصالحة حيث تلوثت أيدى الجميع بدماء المصريين ومازالوا !
أعتقد أن فرص الحل تحتاج لمناخ يصنعه قادة عسكريون لم يشاركوا فى سفك دماء المصريين يعتمد على: أولا: وقف استهداف المصريين السلميين فى تظاهراتهم
ثانيا: إنقاذ الجيش المصري من الخضوع الكامل لإرادة المشروع الصهيوني الأمريكي
ثالثا: التفكير الجدي في كيفية خروج القوات المسلحة المصرية من المشهد السياسي ولو بتدرج يتفق عليه
هنا نستطيع أن نقول أن ثوابت الحلول المنصفة والمبادرات المقبولة تكمن فى عدة محاور:
1- إنهاء الانقلاب العسكري بكل أثاره العملية التي ترتبت عليه من إلغاء لكافة القوانين والقرارات التي تم إصدارها في غيبة الشعب المصري ومن يمثله بحق! ما يعني إلغاء الأحكام القضائية الظالمة العنصرية التي ترتب عليها وإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين فورا.
2- البدء في تحقيق العدالة الانتقالية التي تحقق مع كل من شارك في قتل المصريين بغير وجه حق وتحاسبه قصاصا واجبا، وتصرف التعويضات المناسبة لكل من طاله الأذى منذ الانقلاب العسكري.
3- تحقيق أهداف ثورة 25 يناير (تغيير- حرية – كرامة إنسانية – عدالة اجتماعية) بالبدء في اتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك.
4- البدء في تنفيذ المشروع السياسي المعد لإدارة البلاد عقب زوال الانقلاب العسكري وإنهاء آثاره.
5- الحفاظ على الأمن القومي المصري وما يستلزمه من عودة الجيش إلى ثكناته وحدود مصر الجغرافية؛ لأداء مهمته الحقيقة التي نصت عليها الدساتير الشرعية، وابتعاد قياداته عن العمل السياسي.
6- التأكيد على هوية مصر العربية الإسلامية واحترام التنوع الثقافي بها بالمفهوم الحضارى الذي يستوعب المسلمين والمسيحيين دون إقصاء أو تشويه أو كراهية أو تخوين وحل المشاكل العالقة التي تؤثر في انتماء المصريين لوطنهم.
7- تأكيد استقلال القرار الوطني والحفاظ على الدولة المصرية ووحدة أراضيها وتماسك أبناء شعبها من الشمال للجنوب ومن الشرق للغرب، بعيدا عن مخططات التقسيم وبث الكراهية والاستقطاب وتدخل الدول الأجنبية.
والسؤال الآن ما هي محاور ومبادئ المشروع السياسي الذى سبق ذكره في البند الرابع؟
مهمتنا إذن هي انتاج مشروع سياسي مبدع واضح يحقق الاصطفاف الوطني وإعلانه بوضوح لكي تلتف حوله كافة مكونات الشعب المصري وتسعى إلى تحقيقه وتضحي من أجله.
وذلك عن طريق الوصول إلى حد أدنى من الرؤية المشتركة بين القوى المناهضة للانقلاب والمتضررة منه على اختلاف توجهاتها -حتى من كان مؤيدا للانقلاب ثم تراجع -وقد يتطلب ذلك تقديم تنازلات مهمة وتأسيس شراكة حقيقية توظف قوة كل طرف في التحالف بما يحقق الاستفادة المثلى من أجل كسر الانقلاب ومن ثم تنفيذ المشروع السياسي.
مع إبراز المكونات الشبابية والنسائية في قيادة تحالف الثورة وفي مؤسسات الدولة بعد كسر الانقلاب والتركيز على تنوع الانتماء السياسي لأطرافه كممثلين لمصر الثورة (إسلاميين – ليبراليين – يساريين – قوى ثورية – مسيحيين).
ولتكن شعارات مشروع الثورة السياسي ( أمن بلا استبداد – تنمية بلا فساد – ديمقراطية بلا استعباد) ووجب على الجميع أن يفعلوا عكس ممارسات سلطة الانقلاب العسكري وعليهم أن
يقولوا نعم
للقصاص
للعدالة الناجزة
لاحترام المعاهدات والمواثيق الدولية
للحفاظ على الوحدة الوطنية،للمسار الثورى
وعليهم جميعا أن يقولوا لا
للكراهية
للانتقام
للاحتراب الداخلى
للتمييز الطائفي
للإقصاء
الضوابط الحاكمة:
1. قيادة مصر بعد الانقلاب تشاركية دون التقيد بالوزن النسبي لكل فصيل.
2. ثورة 25 يناير وأهدافها هي معيار الاصطفاف الوطني. (فما يحدث ليس صراعا من أجل استعادة السلطة لذاتها، ولكنها حركة ثورية تستهدف الحفاظ على اختيارات الشعب المصري وحريته واسترداد مسار ثورة 25 يناير، ومن ثم وجب الترحيب بكل من يريد أن يدافع عن حريته وحقه في الاختيار، وينتصر للإرادة الشعبية الحرة).
3. تفعيل إرادة العيش المشترك بين المصريين دون اقصاء او تمييز او كراهية.
4. الجيش مؤسسة وطنية مهنية غير مسيسة مهمته حماية الحدود.
5. السلم الاجتماعي يقوم على التغافر والتسامح دون إهدار لحق. (الشهداء والمصابين والمعتقلين وكافة المضارين).
6. مصالح مصر والمصريين ومبادئ القانون الدولي والمعاهدات والمواثيق الدولية هي أساس العلاقات الدولية والإقليمية.
7. أولوية تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
8. تطوير مؤسسات الدولة كمؤسسات وطنية لا تعمل في السياسة (جيش – شرطة – قضاء – أزهر- كنيسة - ...)
9. عودة الشرعية التي أفرزتها انتخابات ما بعد ثورة 25 يناير (التي شهد لنزاهتها العالم) لتؤسس لشرعية ثورية تشاركية بين قوى الثورة( حدها الأدنى عودة الرئيس المنتخب لينفذ هذا المشروع)
فى إطار هذا المشروع أعتقد أن الاصطفاف الوطنى سيكون أمره سهلا للبدء فى وضع التفاصيل بشكل جماعى حول المحاور المتعددة (السياسى – الاقتصادى – القيمى – الأمنى – الاجتماعى – الحياة اليومية والخدمات الخ)
هذه رؤيتي، ولا أزعم أني وحدي قد وضعتها لكن آن الآوان لها أن تخرج لعلها تلقى قبولا كحد أدنى نتفق عليه بعيدا عن خلافات أجهدتنا وأحبطتنا ومكنت سلطة انقلابية -اتسم أداؤها بالغباء- من البقاء حتى الآن!
ولقد ضاعت على الثوار فرص كثيرة نرجو ألا تتكرر، ولنبدأ من الآن إصطفافا بشكل عملي يغلق الباب على المتسللين والمتربصين لإطالة عمر تواجد العسكر فى صدارة المشهد السياسي بعد عمليات تجميل!! اصطفافا بلا اشتراطات إذا اتفقنا على هذه المبادئ.
وفقنا الله إلى خير العمل وصفاء النية، ورحم الله شهداء مصر الذين قتلوا غيلة وظلما من الجانبين، ووقانا شر الفتن، وحفظ مصر والمصريين من كل سوء، والله على ما أقول شهيد.