جمع
السيسي حوالى 7 مليارات من تبرعات رجال الأعمال والقوات المسلحة في صندوق تحيا
مصر، من أصل 100 مليار تأمل جمعها. فماذا لو وجد في يده ثلاثة أضعاف هذا المبلغ؟ رصدت منظمة النزاهة المالية العالمية أنه خلال عشر سنوات (2003ــ2012) خرج من مصر في المتوسط ما يقرب من 4 مليارات دولار سنوياً، هي أموال ناتجة عن تهرب ضريبي وفساد وجرائم، تتسرب خارج البلد لتغتسل، فلا يعود من الممكن تعقبها أو استردادها فينعم ناهبوها بها في الخارج. يوازى هذا المبلغ 300 مليار جنيه مصري.
وحتى نتخيل هذا الرقم، هو أكثر من عجز الموازنة المبكي عليه، ويقترب من ضعف مقدار الدين الخارجي في 2012 (أي لو لم يخرج لما احتجنا لأن نقترض من الخارج أصلاً). ناهيك عما يمكن أن يحدثه هذا المبلغ من طفرة في الصحة والتعليم والسكن والمواصلات، هو مبلغ يحلم به أي حاكم لمصر.
يصدر التقرير عن منظمة غير حكومية وغير هادفة للربح تنتج أبحاثاً ذات سمعة أكاديمية جيدة، وتعطياستشارات للدول النامية في مجال مكافحة
الفساد. ويرصد تقرير «التدفقات النقدية غير المشروعة من الدول النامية»،والذى صدر في 16 ديسمبر تطور المبالغ، التي تخرج سنة بسنة من مصر. وبمزج الأرقام مع أحداث التاريخ الحديث تتضح تفاصيل مثيرة.
أولاً: قبل وصول حكومة نظيف في نهاية 2004 (تاريخ حكم جمال مبارك و36 رجل أعمال من أتباعه وأتباع والده) لم يكن المبلغ المهرب كبيراً، ففي 2003 كان المبلغ 1.2 مليار دولار، ليقفز إلى أكثر من الضعف في العام التالي (ربما خوفاً من تصفية حسابات بين عهد قديم وآخر جديد. ملحوظة: شهد مجيء نظيف القبض على رجال يوسف وإلى وصفوت الشريف وفاروق حسني). ثم شهد عام 2005 قفزة أخرى في المبالغ المهربة ليصل إلى أكثر من 5 مليار. لتستمر عامين عند هذا المستوى المرتفع، فزواج المال بالسلطة بلغ أوجه، وسمح اختلاط الزيت بالدقيق في جميع مؤسسات الدولة بتسريع تراكم الثروات الفاسدة المعفاة من الضرائب، وتهريبها إلى الملاذات الضريبية العالمية حيث يصعب تعقبها. حتى جاء عام 2008.
كان إضراب عمال غزل المحلة علامة فارقة أثارت ذعر الفاسدين. فهي أول مرة يتحول فيها إضراب عمالي إلى حشد من المواطنين يجوب الشوارع منادياً بسقوط مبارك ونظامه. وأدت بروفة 25 يناير المصغرة إلى أن نزحت من مصر أكبر كمية من أموال الفساد بحسب أرقام منظمة النزاهة الدولية، حيث أخرج الفاسدون أكثر من 6 مليارات دولار في عام واحد (لم يردعهم حالة الكساد في
الاقتصاد العالمي)، وذلك دون أن يرفع محافظ البنك المركزي أو أي من أجهزة الدولة الرقابية (وهي كلها يرأسها قيادات سابقة لأجهزة أمنية عليا) أي أعلام حمراء.
وبعد أن عاد استقرار يخفي غلياناً، جاءت الثورة ليتجدد نزوح الأموال المهربة في 2011 و2012، بأكثر من 5 مليار سنوياً، إضافة إلى 14 مليار دولار خرجت من مصر بشكل «شرعي» (وهو ما يسميه التقرير هروب رؤوس الأموال)، وأيضاً دون أن يتدخل أي من الأجهزة الرقابية ليمنع أو يعاقب. وهكذا وقعت البلاد في أطول أزمة نقص دولارات ممتدة حتى اليوم من ثلاث سنوات، وانهارت محفظة الاحتياطات النقدية لدى البنك المركزي. أي إنه ضحى بأموال الشعب ومستوى معيشتهم بسماحه بخروج تلك الأموال خارج البلاد. فكل ارتفاع في سعر الدولار هو انهيار في قيمة الجنيه المصري، لتتآكل قدرته على الشراء، فلا يشترى الجنيه نفس القدر من السلع بل أقل فأقل.. فمن هم هؤلاء المفقرون للشعب وكيف يهربون أموالهم؟
فتش عن هؤلاء المصدرين
تزوير فواتير التصدير بحيث تبدو بأقل من قيمتها الحقيقية هو من أهم أنواع نزوح الأموال غير المشروعة خارج مصر.. وهكذا احتلت مصر مكانتها الشامخة (12) بين أكبر 20 دولة «يضرب» مصدروها فواتيرهم بأقل من قيمتها، ليستبقوا جزءاً من ثمن الصفقة خارج البلاد، وهذه المرتبة المتقدمة تأتي حتى دون أن يأخذ التقرير في الحسبان نوعاً آخر من ضرب فواتير الصادرات، وهو أن تصدر الشركة المصرية بضاعتها بشكل صوري إلى المقر الأصلي لها الكائن في أحد جزر ملاذات التهرب الضريبي. وهو أمر شائع في مصر إذا ما عرفنا أن جزر كايمن والباهاماز وما شابههما هي أهم الدول التي تتدفق منها الاستثمارات إلى مصر. فالمستثمرون المصريون ــ ومنهم جمال وعلاء مبارك، القائمة شركاتهم إلى اليوم ــ ينشؤون شركاتهم في تلك الملاذات الضريبية، ثم يفتحون شركة تابعة لها في مصر. فإذا أردنا محاسبة هؤلاء المزورين، فنقطة البدء هي التفتيش في أوراق أولئك الحاصلين على دعم الصادرات، بحسب التقرير. وفى مصر، أمر تتبعهم سهل إذا خلصت النية؛ إذ يكفي الكشف عن أوراق حفنة من الشركات، هي أكبر الحاصلين على دعم التصدير (يرفض القائمون على صندوق دعم الصادرات الكشف عن الشركات الحاصلة على الدعم، ومنهم وزراء الصناعة والتجارة منذ ما قبل الثورة وحتى الآن). فقط نعرف بالتقريب أن 10 مصدرين يحصلون على 90% من الدعم الذى يبلغ سنوياً 3ــ4 مليارات جنيه من جيوب دافعي الضرائب. أجل، نحن نمولهم.
ثم فتش عن متلقي دعم الطاقة من المصدرين والمستوردين للسلع الوسيطة. فهؤلاء أيضاً على قمة قائمة المشتبه بهم بحسب التقرير، وهم على رأس المتهربين من الضرائب، بحسب التقرير نفسه.
ثم فتش عن مستثمري البورصة ذوي الأموال الساخنة. هؤلاء هم أصحاب نصيب الأسد في تهريب الأموال في منطقة الشرق الأوسط، بحسب التقرير (حوالى ثلثي إجمالي التدفقات النقدية غير المشروعة).
ويلاحظ التقرير أنه كلما استشرى الفساد الحكومي، زادت تدفقات الأموال غير المشروعة خارج البلاد، بحسب دراسة قام بها باحثوه.
وهكذا، في منطقتنا الفاسدة في مجملها (بحسب تقارير أخرى وهذا التقرير الأخير)، زاحمت مصر الدول النفطية الغنية لتحوز الميدالية البرونزية من حيث حجم التدفقات النقدية غير المشروعة. وتبوأت مصر المرتبة 23 من حيث التدفقات النقدية غير المشروعة على 145 دولة، لتحتل مكانة متقدمة عالمياً. ولو أنهم حسبوا نسبة التدفقات إلى متوسط الدخل، لـ«تقدم» ترتيبنا وزاد تجلي الواقع الفاسد الذى نعيشه.
كلمة أخيرة. استراتيجية مكافحة الفساد المعلن عنها منذ أيام لم تكتمل صياغتها بعد (رغم الإعلان عنها). ومصر لم توقع على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، وهو أمر بسهولة جرة قلم وصعوبة إرادة.