أي إنسان حرّ وعاقل يكره أن يخوض في غمار تسميات وأوصاف طائفية أو مذهبية أو عرقية، فقد تعودنا في أيام الزمن الجميل على الانفتاح والتسامح والتعايش بين مكوّنات عالمنا العربي وآمنّا بأننا إخوة ننتمي إلى أوطان متعددة وأمة واحدة لا فرق بين عربي وآخر إلا بمقدار وطنيته وإنسانيته ونبذه الغلوّ.
هكذا عاشت الأمة منذ مئات القرون، وهكذا نشأنا وترعرعنا وعرفنا سعادة الأخوّة ومزايا المشاركة وفوائد التضامن والتعاون، ولم نعرف أي نوع من أنواع التفرقة أو نشعر بأحاسيس خاصة تجاه أي مكوّن من مكونات الشعوب والأمة. كما لم نسأل يوماً أي صديق أو جار عن دينه أو طائفته وانتمائه، وأكبر مثال على ذلك هذه الصروح من المقدّسات والمقامات التي بقيت صامدة سليمة محمية منذ أكثر من 14 قرناً، وهذا التنوع والتجاور والتآخي بين أبناء أديان وطوائف ومذاهب وأعراق مختلفة... إلى أن جاءت «
داعش» وأخواتها لتمارس أعمالها المستنكرة والمدانة ضد الجميع، بل قتلت واضطهدت من أهل السنّة أكثر من أي مكوّن آخر.
كل شيء في ديارنا كان يسير بانسيابية في الاتجاه الصحيح إلى أن بدأت المؤامرة المتعددة الرؤوس في إشاعة أجواء التفرقة وإثارة النعرات، واتخذت لها سبيلاً خارجياً وعوناً داخلياً من بعض ضعاف النفوس الذين رضوا أن يكونوا أدوات هدم عن علم وعمالة أو عن جهل وتعصب. وهكذا بدأت الفتن تطل برأسها على العرب، دولة بعد دولة وشعباً بعد شعب، وطائفة بعد طائفة، إلى أن وصلنا إلى هذه المرحلة السوداء.
وحتى نكون موضوعيين ومنصفين لا بد أن نضع إصبعنا على الجرح، ونوجه إصبعنا الآخر نحو المتهمين بالمشاركة في هذه «المذبحة الشاملة» والممتدة من المحيط إلى الخليج. وحتى نكون صادقين وصريحين لا بد من البدء بأنفسنا أولاً، ثم نعترف بأنه ما من أحد بريء من دم الأبرياء، وما من طرف إلا وشارك بشكل أو بآخر في إيصال السكاكين إلى الأعناق.
ومن لم يشارك يعرف أنه كان شاهد زور على مجريات الأمور، إن لم يتحول إلى شيطان آخر يسكت عن الحق ويساير الباطل ويسير في ركاب أصحابه هاتفاً ومبجلاً.
ولو استعرضنا ما جرى في المنطقة خلال نصف قرن، تبلورت أخطاره وظهرت مساوئه أكثر في السنوات الأربع المنصرمة، لوجدنا مئات الجروح والمضاعفات والتعقيدات والأزمات والظواهر المدمرة التي تحتاج إلى مجلدات لتفنيدها، وشرح أبعادها وسبر أغوارها ومحاولة رسم خريطة طريق لمعالجتها والخروج من أنفاقها المظلمة.
ولعل أبرز قضية أو واقع يتقاطع مع كل هذه المضاعفات، هو أوضاع مكونات الأمة من الطوائف والمذاهب والأعراق، وبالذات وضع المسلمين السنّة، أو «أهل
السنة» بحسب التسمية المتداولة، ووقوفهم من حيث لم يدروا بين فكّي
كماشة تحاول تفتيتهم أو تحجيم دورهم والإساءة إلى سمعتهم وإلصاق أسوأ أشكال التهم بهم، مع أنهم كانوا ولا يزالون، في غالبيتهم، يمثلون قمة الاعتدال والانفتاح والتعايش مع الأمم والأديان والطوائف الأخرى عبر العصور. بل يمكن الجزم بأنهم كانوا أول من بدأ بالحوار مع الآخر والمجادلة بالتي هي أحسن منذ ظهور الإسلام، دين الوسطية، (وجعلناكم أمة وسطاً)، مروراً بعلماء وقادة، وصولاً إلى الدعوات المتكررة والخطوات العملية التي اتخذها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ورعايته «المركز العالمي للحوار»، وإصراره على حوار آخر بين المذاهب.
ومن يدقق في تداعيات الأحداث المتعاقبة يدرك جيداً صحة هذا الواقع الذي أدى إلى وقوع المسلمين السنّة بين «فكي كمّاشة»، عرضت مصيرهم للخطر أو بين سندان التطرّف والإرهاب، المنسوب إليهم زوراً وبهتاناً، ومطرقة العداء المستشري الذي اتخذ أشكالاً متعددة، مثل «الإسلاموفوبيا» وتعميم الصورة النمطية المزورة التي تربط كل عمل إرهابي بالإسلام والمسلمين.
والمقصود بهذه التهمة الظالمة المسلمون السنّة بالذات، من دون الأخذ في الاعتبار أنهم يمثلون أكثر من بليون إنسان مؤمن، أو من دون الاعتراف بأن مئة أو مئتين أو ألفاً أو ألفين أو حتى مليوناً أو مليونين اختاروا سبيل التطرّف والإرهاب، لا يمثلون سوى أقل من واحد في المئة من تعداد المسلمين المنتشرين حول العالم.
فعلى الصعيد الدولي، كان واضحاً أن المقصود بمزاعم صراع الحضارات والإسلاموفوبيا ومزاعم خطر الإسلام على حضارة الغرب، هم في أكثرهم من المسلمين السنّة؛ ولهذا انطلقت الأبواق المغرضة تعلن النفير وبداية الحرب لتضرب خبط عشواء من دون تمييز بين مسالم وإرهابي، وبين معتدل ومتطرف. ودأبت الصهيونية العالمية على صب الزيت على النار.
لكن نيران الأحقاد لم تتأجج إلا بعد أن أقدم بعض المسلمين على تنفيذ عمليات مسيئة أعطت الحجج والذرائع للأعداء، ومنحت كل حاقد المبرر لممارسة كراهيته الدفينة. فقد تبنت «القاعدة» بقيادة أسامة بن لادن عمليات التفجير في نيويورك وواشنطن التي وصفت بالزلزال، لتلصق بعدها تهمة الإرهاب بكل مسلم وتؤدي إلى احتلال العراق وأفغانستان، وتصعيد إسرائيل عربدتها ضد الشعب الفلسطيني، مع أن القاصي والداني يعرف جيداً من «اخترع الوحش» ومن غذاه ثم أفلته ليمارس خطاياه، إن لم يكن قد أفلت وحده بعد أن تخلى عنه أربابه، عندما أدى مهمته في تدمير الاتحاد السوفياتي انطلاقاً من أفغانستان.
وما يجري حالياً من أعمال عنف وإرهاب ومذابح يندى لها الجبين وعمليات خطف وذبح وصلب وسبي للنساء... ما هو إلا فصل من فصول هذه المؤامرة التي دفعت القريب والبعيد والعدو والصديق إلى وضع كل المسلمين في ميزان واحد يشمل الجميع في الإدانة والاستنكار والعداء، مع أن كل الدلائل تؤكد أن هؤلاء أقلية منحرفة، بينما غالبية المسلمين براء منهم، بل إنهم كانوا أول من تصدى للإرهابيين، فيما كان العالم يغض الطرف عنهم أو يحاورهم ويدافع عنهم بزعم الدفاع عن حقوق الإنسان.
لكن هذا لا يمنع من الاعتراف بحدوث بعض التقصير في المواجهة أو التأخر في حسمها، أو السكوت على واقع كان يبدو للبعض عادياً ومضبوطاً ضمن سياسة الإنكار.
ولا نكشف سراً إذا قلنا إن المقصود بهذا التعميم هم «أهل السنّة»، فإسرائيل تعتبرهم الخطر المستقبلي على وجودها، والولايات المتحدة تنظر إليهم كتهديد أول لمصالحها، وروسيا تتعامل معهم كصاعق تفجير إضافي لكيانها ولهيمنتها على الجمهوريات الإسلامية الآسيوية، والشيشان بالذات، ولهذا تتخذ هذه الدول كلها «داعش» و «جبهة النصرة» والتنظيمات المتطرفة الأخرى، ذريعة لتبرير مخاوفها، بل إن الغرب يحاول دقّ إسفين في العلاقات بين المسلمين السنّة والمسلمين الشيعة... وغيرهم من المنضوين تحت راية الإسلام، كما يعمل على إذكاء نار الفتن والترويج لفكرة أن الثورة في إيران تخدم أهدافه، لأنها ستؤدي في النهاية إلى شق صفوف المسلمين وإشعال نار فتنة مذهبية على المدى البعيد، بل إن هناك من يدعو إلى استغلال هذه التباينات للوصول إلى الغايات الخبيثة، كما جرى عند اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية.
وبكل أسف، فإن علامات الفتنة السنية- الشيعية قائمة ويجري الحديث عنها بين حين وآخر، وتتركز نيرانها في العراق قبل الغزو الأمريكي، وبعد إسقاط نظام الرئيس صدام حسين وخطايا النظام الجديد حيث جرى ما نعرفه جميعاً، وأدى إلى الدخول المشبوه لـ «داعش» على الخط، والباقي معروف. وفي لبنان، اشتدت المخاوف من الفتنة نتيجة الخلافات المستشرية التي تفجرت في 7 أيار (مايو) 2008... ووصلت إلى ذروتها بعد إعلان «حزب الله» القتال في سوريا.
ومن هنا، كشّر الفك الآخر للكمّاشة عن أنيابه بإثارة حساسيات وإطلاق مشاريع مشبوهة وتزايد الأحاديث عن تقسيم وتفتيت ودول طائفية، وإعادة النظر في الحسابات وموازين القوى، ومن بينها كلام كثير عن الدعوة إلى إقامة ما يسمى بتحالف الأقليات، أي بين الشيعة والدروز والعلويين والإسماعيليين والمسيحيين، بمختلف طوائفهم، لتأمين قدر من التوازن العددي والمادي مع المسلمين السنّة، الذين يمثلون الأكثرية في العالمين العربي والإسلامي. وعلى خط موازٍ، هناك تركيز إعلامي وسياسي على ارتكابات المنظمات المتطرفة والزعم بأنها جزء من نهج المناطق السنية كلها لتأجيج العداء ضدها، مع الرهان على حروب وصراعات سنّية- سنّية بين المتطرفين والمعتدلين وإضعاف أي دولة أو قائد حزب أو اتجاه يمثل الاعتدال؛ بوصفه القلعة الحصينة لمنع الفتن وإظهار الوجه الحضاري والإنساني الذي يمثل الغالبية. وهذا ما تبنته إسرائيل التي شنت حروباً ومؤامرات ضد المعتدلين، من «فتح» وغيرها بقيادة الرئيس الشهيد ياسر عرفات، ومن بعده عمدت إلى تحجيم دور الرئيس محمود عباس لأنها تدرك جيداً أخطار الاعتدال على كيانها.
وانطلاقاً من هذه المؤشرات والأخطار لا بد من التنبيه والحذر لمقاومة هذه المشاريع المشبوهة؛ لأن نهايتها وخيمة على الجميع بلا استثناء، بين سنّي وشيعي وأي مكون آخر من مكونات أوطاننا وشعوبنا. ومهما كانت المبررات، فإنه لن يكون فيها منتصر ولا مهزوم، بل خاسر وخاسر، ورابح واحد هو إسرائيل.
ولمواجهة مثل هذه الأخطار، لا بد من الحوار البنّاء وإعادة اللحمة إلى كل أطياف الأوطان، وإزالة أسباب الخلاف أو التمييز وإشاعة أجواء المحبة والتعايش والوحدة، وتوجيه الجهود كلها إلى نزع صواعق التفجير، وإيجاد حلول سياسية للأزمات المتفاقمة، والالتفات إلى البناء وإعادة الإعمار وتأمين الحياة الكريمة للمواطنين.
والأهم من كل ذلك، وضع حد لأي تدخل خارجي ونبذ العنف وتوحيد الطاقات لمحاربة التطرّف والإرهاب بكل أشكاله، والقضاء على الأسباب والدوافع التي أدت إلى انتشاره. وبهذا العزم والتصميم، ينجح العرب في كسر فكّي الكماشة قبل أن تسحق كل مكونات الأوطان العربية.
(صحيفة الحياة اللندنية)