يكثر الحديث هذه الأيام عن تسويات وحلول وصفقات تمهد لإحلال السلام ووضع حد للحروب العبثية المدمرة، وتدوير الزوايا والمواقف في شأن الأزمات العميقة التي عجز العالم لأكثر من 6 سنوات عن تحقيق انفراجات وتقريب وجهات النظر بين الجهات المتصارعة فيها، ومن خلفها القوى الطامعة.
فغالبية التوقعات والمؤشرات تبشر بقرب حلول موعد تبريد الأجواء؛ خوفا من تحول هذه الأزمات والحروب إلى تهديد حقيقي ومدمر للأمن العالمي ولمصالح الدول الكبرى.
لكن، هذا لا يمنع من توقع حدوث تصعيد وتوترات من هنا وهناك، وأن يشهد ربع الساعة الأخير انفجارا لأوضاع معينة وفق مبدأ «اشتدي أزمة تنفرجي». أما مجريات الأمور، فتشير إلى أن الجهات المهيمنة من قوى كبرى وإقليمية باتت تمسك بخيوط اللعبة، ومعها رؤوس الفئات المتصارعة والمعنية بالنزاعات القائمة.
والمقصود بالحلول والتسويات والصفقات كل المناطق العربية الساخنة، من العراق إلى سوريا، ومن اليمن إلى ليبيا، ومن الخليج إلى مصر ولبنان. فهناك معلومات تؤكد أن الصفقات ستكون متكاملة بين «أولياء أمر العرب» بعد اكتمال فصول اقتسام الغنائم وتوزيع مناطق النفوذ، ورسم خرائط المنطقة على قياسهم. وفي هذا الأمر لا يمكن إغفال مصالح إسرائيل ومطامعها بعد أن دخلت بالقوة المعرّاة في اللعبة الخطرة، عبر الاعتداءات والتهديدات والمفاوضات السرية مع الولايات المتحدة وروسيا؛ لضمان نيل حصتها من «تركة الرجل العربي المريض».
وتركز هذه الضغوط الإسرائيلية على نقاط عدة أهمها ضمان حدودها مع سوريا في الجولان المحتل وفي جنوب لبنان، وإقامة منطقة أمن عازلة تمنع «حزب الله»، أو أي جهة أخرى بخاصة الحرس الثوري الإيراني والمليشيات التابعة له، من الاقتراب منها، إضافة إلى تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، ومنع إقامة مصانع صواريخ في أراضيها أو تهريب أسلحة إلى لبنان.
وتطالب إسرائيل بتكرار تجربة لبنان بعد حرب تموز (يوليو) 2006 مثالا يحتذى، حين أشرفت قوات الأمم المتحدة على تنفيذ القرار الدولي 1701 وضمنت عدم وقوع أي هجوم أو تهديد أمني لإسرائيل لأكثر من 11 سنة، باستثناء بعض الهجمات الصغيرة من جانب فئات لا تنتمي إلى «حزب الله».
وإذا تحقق هذا الأمر، فإن الحل سيضمن عدم تصعيد التوتر في المناطق الحدودية السورية واللبنانية، وتكريس جملة المكاسب التي حققتها إسرائيل منذ اندلاع الحروب والأزمات الداخلية العربية.
والأخطر من ذلك أن المطامع الصهيونية القديمة، الرامية إلى تفتيت المنطقة وتقسيم الدول العربية إلى دويلات هزيلة قابلة للاشتعال في أي لحظة، والانشغال بحروب ونزاعات في ما بينها، تكون سمتها الرئيسية دينية وطائفية ومذهبية وعرقية. مع الإشارة إلى المشاركة، بشكل أو بآخر، في دعم إقامة دويلة كردية في شمال العراق، على أمل بأن تتكرر التجربة في شمال سوريا بعد إتمام اتفاقات وقف التصعيد المشبوهة لرسم الحدود الجديدة، وفق فرض الأمر الواقع الذي قد يطول لسنوات طويلة يجرى خلالها إكمال فصول المؤامرة الخبيثة.
ولا يختلف اثنان في المنطقة والعالم على أن الرابح الأول من كل ما حصل من مؤامرات عام 2011 حتى يومنا هذا هو إسرائيل، إذ ضمنت ضرب مفاصل القوة العربية وتفتيت مراكز قرار الحرب في القاهرة وبغداد ودمشق.
وشغلت دول الخليج في حروب ونزاعات مفروضة عليها لحساب إيران التي تعد الرابح الثاني بعد إسرائيل، التي لم تخفِ سرورها للتطورات التي أوصلتها إلى ما تريده، من دون أن تطلق رصاصة واحدة، فيما لم تنكر إيران طموحها إلى إحياء الامبراطورية الفارسية، والوصول إلى منافذ البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي.
إلا أن مكاسب إسرائيل وإيران لا تقاس بمكاسب الولايات المتحدة وروسيا اللتين تتنوع جوائزهما بين إقامة قواعد عسكرية وبحرية وجوية، والهيمنة على مصادر الثروات النفطية والمعدنية، وضمان سيطرتهما على مقاليد الأمور، وابتزاز الدول العربية للحصول على خوّات وبلايين الدولارات في مقابل «حماية مزعومة» في وجه تهديدات أيدتها واصطنعتها. وما «فزاعة» الإرهاب إلا واحدة من الوسائل الخبيثة التي استخدمت لتبرير الاحتلالات الجديدة والتدخلات السافرة، فالأمور باتت مكشوفة وانفضح أمر كل من خطط وساهم وشارك في اختراع هذا الوحش وتضخيم خطره، وإكمال دوره في تفتيت الدول العربية وتدميرها وتشويه صورة الإسلام.
فكل المعارك الوهمية والتحركات المريبة ما هي إلا فصل واحد من فصول وضع مأساوي من فيلم رعب طويل تحول كوميديا سوداء، أبطاله وحوش افتراضية وأشباه فرانكشتاين صانع الوحش الأسطوري، الذي ارتد على صاحبه وتحول أمثولة للتخويف.
وبانتظار أن يكتمل المشهد الإبداعي، لا بد من أن نسمع كل يوم أحاديث عن بطولات وانتصارات وهمية بطعم الهزائم، وتفاخر دولي بإحلال السلام ووضع حد للحروب وحقن الدماء من دون أن نستبعد حصول بعض من لوثوا أيديهم بالدماء على جوائز «نوبل» للسلام.
ولا يرفض أحد جهود وضع حد لنزيف دماء العباد وتدمير البلاد، وسط دعوات صادقة بأن ينعم الله على أوطاننا بالسلام والأمان لإنهاء هذه المآسي المفجعة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من البشر والحجر، إلا أن السؤال المهم والمقلق الذي يتبع ذلك هو: أي سلام سيحل بعد خراب البصرة والموصل وما بينهما في العراق والدول الأخرى المنكوبة بالحروب في سوريا وليبيا واليمن، من دون أن نغفل معاناة مصر ولبنان ودول الخليج جراء هذه الحروب؟ أي سلام بمعنى أن معاول الهدم دمرت كل مفاصل الحياة وأكلت الأخضر واليابس، وساهمت في قتل مئات آلاف المدنيين الأبرياء، وشرّدت الملايين ودمرت البنى التحتية والفوقية في شتى أنحاء الأوطان والمواقع الحضارية، عدا عن إنهاك الجيوش والتسبب في مشاكل وأزمات اجتماعية ومالية وإنسانية.
يضاف إلى كل ذلك ما أشرت إليه عن التفتيت والتقسيم وإثارة النعرات والخضوع لإرادة القوى الأجنبية والاحتلالات والهيمنات التي أين منها مظالم الاستعمار القديم، الذي ناضل الأجداد والآباء ورووا بدمائهم الطاهرة تراب الأوطان؛ دفاعا عنها وعن أرضهم وشرفهم لتحقيق حلم الاستقلال، وفق شعار «الاستقلال التام أو الموت الزؤام».
وبكل أسف، فإن شعوب العالم اتعظت من دروس الحروب وعبرها ومآسيها ومظالمها، فرسمت سياساتها على أساس السلام والتعاون، كما حصل بالنسبة لأوروبا التي عانت الأمرّين من الحروب المتتالية. وفي مقلب آخر، نجد اليابان التي استعادت أمجادها بعدما أسدلت الستار على مزيد من الحروب، وركزت على البناء وإقامة اقتصاد قوي له وزنه في العالم.
فهل لنا أن نأمل بأن يهدي الله العرب ويثبت عليهم العقل والإيمان؛ لعلهم يتجهون إلى السلام والتضامن واتباع نهج الاعتدال لخوض جهاد أكبر، يسعى إلى بناء البشر قبل الحجر ورأب الصدع وإزالة كل أسباب التوتر والفرقة؟
فلنؤمن بأن الحروب لا تخلف إلا الدمار والبؤس والفقر والجهل والمآسي في حالتي النصر والهزيمة، وبأن هناك كلمات سحرية في كل اللغات، وهي التنازلات والحل الوسط والعقل والمنطق والحكمة ونبذ العنف والإعداد لقوة الدفاع عن النفس لا قوة العدوان، وتحقيق المشاركة الشعبية في كل المجالات، وخصوصا في قرارات الحرب والسلم.
من دون ذلك، يبقى السلام ناقصا وتظل أبواب الحروب والنزاعات مشرعة، ويشبه هذا الوضع حالة المريض الذي أدخل إلى غرفة العمليات لإجراء عملية جراحية، وبعد طول انتظار يخرج الجراح ليبشر الأهل قائلا: «لقد نجحت العملية، لكن المريض مات»؟! وهذه ستكون حال العرب إذا تحقق السلام الناقص والمتأرجح، أي نجحت العملية وماتت الأوطان، لا قدّر الله.