يبدو المشهد المحلي والإقليمي والدولي متشابكا كما لم يكن يوما من قبل، فعناصر اللعبة الاستراتيجية التي تقوم على الهيمنة والسيطرة والتحكم والإخضاع معقدة للغاية، ودائرة الزمان تتلاعب في حسم خيارات الفرقاء وتكشف عن محدودية تحقيق نصر بلا حرب، فاللعبة الاستراتيجية الكبرى تكشف عن إعادة موضعة أحجار الرقعة وتعصف بالخطط والتكتيكات التقليدية، فالتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية لا يبدو بخير، والضربات الجوية لا تحقق نصرا حاسما، فالسياسات الهوياتية الإثنية والمذهبية التي تبنتها الولايات المتحدة في
العراق، أسفرت عن تنامي النفوذ الإيراني وصعود الراديكالية الشيعية المتطرفة، الأمر الذي يجعل من إعادة بعث "الصحوات" السنيّة تحت عنوان "الحرس الوطني" لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في سياق تفعيل عقيدة "مكافحة التمرد" خيارا فاشلا وعقيما وضارا.
الاستراتيجية الأمريكية لا تزال تصر مع حلفائها على عدم إرسال قوات بريّة وتكتفي بديمومة الضربات الجوية، الأمر الذي يشكك فيه تنظيم الدولة ويراهن على إجبارها مستقبلا على التورط المباشر، فالاستراتيجية الأمريكية تتبنى مقاربة ترتكز على إعادة بناء وتأهيل القوات العراقية والكردية، وتأسيس قوات سنيّة تحت مسمى "الحرس الوطني"، وهي ميليشيات عشائرية سنّية مسلّحة تنتظم خارج إطار الجيش والشرطة الرسميين، وهي تسميّة تحاول التعميّة على مسمى "الصحوات"، وتوظيفها في عقيدة "مكافحة التمرد" التي اعتمدها الجنرال ديفيد بترايوس في العراق لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية بين 2006 ــ 2008، ويأتي تعيين الجنرال جون آلن كمنسق لجهود التحالف استكمالا لذات النهج، فقد اكتسب آلن شهرته في العراق حيث كان يقود القوات الأمريكية في غرب العراق آنذاك، وقد نجح حينها في نسج علاقات مع شيوخ العشائر السنية وساهم في تشكيل الصحوات التي قاتلت تنظيم القاعدة وتمكنت من إخراجه من المناطق السنية.
لا يزال مشروع تأسيس "الحرس الوطني" يعاني من اختلالات عميقة، ولا يتوافر على رؤية واضحة، ومع ذلك أقرت الولايات المتحدة شراء أسلحة لرجال العشائر السنية ضمن خطة إنفاق تصل إلى حوالي 24 مليون دولار، وتضم الخطة الأمريكية إنفاق حوالي 1.6 مليار دولار بهدف تدريب وتسليح القوات العراقية والكردية، ومن المفترض أن يضم الحرس الوطني من 120 إلى200 ألف رجل، لكن المشروع لا يتمتع برضا إيران التي تمسك بزمام المليشيات الشيعية النافذة، وتعمل على تأسيس صحواتها السنيّة الخاصة، وهي تنسق مع رئيس الوزراء الشيعي حيدر العبادي لمنع استدخال "الحرس الوطني" في قوات الجيش العراقي الرسمي، ولذلك تعمل واشنطن على التواصل مع الدول العربية السنية، كالأردن والإمارات والسعودية، للمساعدة في تدريب وتشكيل الحرس الوطني.
لقد تغيرت أوضاع العراق والمنطقة منذ زمن الصحوات الأولى، فبحلول عام 2006، كان الوضع الأمني في العراق قد تدهور مع تصاعد هجمات القاعدة، الأمر الذي بحثت فيه الولايات المتحدة عن خيارات صعبة، وظهر الجنرال ديفيد بترايوس كمنقذ، إذ قدم استراتيجية جديدة في "مكافحة التمرد"، تستند إلى مزيد من تدفق القوات، وذلك من خلال ضخ أكثر من 30 ألف من الجنود الأمريكيين لإعادة الانتشار ومنع توالي الانهيارات، ليصل عدد القوات الأمريكية إلى 160 ألف من الجنود، وذلك بالتزامن مع دعم الحركات والفصائل والقوى السنيّة المستعدة لقتال تنظيم دولة العراق الإسلامية، وهي الظاهرة التي أطلق عليها "الصحوات"، الأمر الذي تغيّر اليوم مع غياب القوات البرية الأمريكية.
يشير مصطلح الصحوة إلى ردة فعل سنية مسلحة ضد مقاتلي تنظيم القاعدة في العراق، وتعمل تحت إشراف القوات الأمريكية، والقوات العراقية، وهي قوات شبه عسكرية، ولديها وظائف مجتمعية واستخبارية في حالة السلم وأمنية وعسكرية في حالة الحرب، وقد تشكلت الصحوات الأولى عند تأسيسها من ثلاثة مكونات؛ الأولى: من أبناء العشائر وهي "صحوة العشائر القديمة"؛ وتوحدت في الأنبار بزعامة عبدالستار البوريشة باسم "مجلس صحوة الأنبار"، بتمويل أمريكي، وقد تم دمجهم في أجهزة الدولة، ثم تحولوا إلى العمل السياسي من خلال تأسيس "مؤتمر صحوة العراق"، والثانية: من أبناء العشائر وهي "صحوة العشائر الجديدة"، وهي تكوينات عديدة ممولة أمريكيا بصفة متعاقد، ومن أهمها؛ في شرق الأنبار بقيادة وسام الحردان، وفي غرب الفلوجة بقيادة محمد الهايس، وفي غرب الرمادي بقيادة نعيم الكعود، تم توسيع هذا التشكيل وشمل كل حزام بغداد بقيادة ثامر التميمي (أبو عزام)، والثالثة: صحوات الفصائل "السلفية والإخوانية والبعثية"؛ أمثال الحزب الإسلامي، والجيش الإسلامي، وكتائب ثورة العشرين، وتبدو هذه المكونات اليوم مفككة وتغيرت بعض مكوناتها وتحالفاتها، وخصوصا المكون الثالث الذي عانى بسبب السياسات الأمريكية والعراقية.
لم تسفر مشاركة السنة في حرب تنظيم القاعدة إبان تأسيس الصحوات الأولى عن تفعيل مشاركتهم في إدارة الدولة، التي شهدت تناميا مطردا لسيطرة ونفوذ الشيعة في كافة أجهزة الدولة، ولم تنجح مساعي دمج الصحوات في الأجهزة العسكرية والأمنية، حيث زادت مشاعر السنة بالإقصاء والتهميش، وقد حذّر قادة الصحوة، من جهتهم، من إمكان حدوث تدهور سريع على الصعيد الأمني وعودة الظروف إلى ما كانت عليه في مرحلة 2006-2007 إذا لم تكتمل عملية إعادة الدمج.
على الرغم من الحرب الشاملة على تنظيم دولة العراق الإسلامية في حقبة زعيمه أبو عمر البغدادي وزعيم قاعدة العراق وزير حرب الدولة أبو حمزة المهاجر، إلا أن التنظيم لم يتلاشى تماما، لكن نفوذه شهد انحسارا وتراجعا كبيرا، وفي خضم الحرب الأهلية واسعة النطاق في العراق التي ساعد بتريوس على إشعالها بعملياته التي أسفرت عن إنشاء فرق الموت "لمكافحة التمرد"، كانت نار
الطائفية تشتعل بطرائق عديدة، ومشاعر السنة بالتهميش والإقصاء تتزايد، وعمليات الاستهداف والقتل تتعاظم فو الوسط السني، وسجون الاحتلال والحكومة تغص بالسنة.
لقد تمكن التنظيم من احتواء الحرب الشاملة 2007 ــ 2008، إذ تخلى عن سيطرته المكانية، وعاد إلى استراتيجية حرب العصابات، من خلال شن هجمات انتحارية مميتة، بواسطة سيارات مفخخة أو انتحاريون، وإن لم تحدث بنفس وتيرة الأعوام الأولى للاحتلال، إلا أنها شكلت خطرا كبيرا على الدولة العراقية، إذ استهدفت بصورة خاصة المؤسسات والمباني الحكومية، فقد أطلق التنظيم خطة "حصاد الخير"، ومن ضمنها سلسلة "غزوة الأسير"، وكانت أبرز محطاتها الهجمات على وزارة الخارجية والمالية في آب/ أغسطس 2009، وأعقبها بموجتين أخريين من الهجمات في تشرين أول/ أكتوبر، وكانون أول/ ديسمبر، كما أصدر التنظيم سلسلة من الإصدارات المرئية تباعا، وصلت إلى خمسة إصدارات، من إنتاج مؤسسة الفرقان، وهي تركز على الممارسات الأمريكية، التي مكنت تغلل النفوذ الإيراني في العراق، وتنامي السياسات الطائفية وتحكّم المكوّن الشيعي في العملية السياسية وتهميش السنة، كما توثق العمليات العسكرية الكبرى.
عندما أعلن عن مقتل أبو عمر البغدادي في 19أبريل/نيسان 2010، إلى جانب وزير حربه، أبو حمزة المهاجر، كان التنظيم قد فقد سيطرته لمكانية على معظم المناطق في العراق، إلا أن التنظيم حافظ على تماسك هيكليته الأساسية، ودخل مع حقبة أبو بكر البغدادي في طور تنظيمي عسكري أمني شديد السرية والارتياب، وأصبحت استراتيجيته القتالية عقب تجربة مكافحة التمرد وبروز الصحوات، تعتمد تكتيكات مرعبة تجاه المحيط الاجتماعي القريب، وبدأت خياراته صارمة بعد أن هيمن على مركز القرار داخل التنظيم مجموعة من العسكريين أكثر صلابة على صعيد الالتزام الديني السلفي الجهادي، وأكثر عزما ودهاء على الصعيد الاستراتيجي.
شهدت حقبة أبو بكر البغدادي تحولات داخلية عميقة على صعيد البنية الإيديولوجية والتنظيمية لدولة العراق الإسلامية، مع تولي نوري المالكي رئاسة الوزراء لولاية ثانية أواخر 2010، وكانت الولايات المتحدة قد بدأت إجراءات الانسحاب من العراق بموجب الاتفاقية المبرمة مع الحكومة العراقية عام 2008، ومع انتهاء مفعول الاتفاقية العراقية ـــ الأمريكية، واستكمال الانسحاب في 31 كانون لأول/ ديسمبر 2011، كان العراق يقع في مجال النفوذ الإيراني، وهيمنة المكون الشيعي، وتنامي السلطوية، وغارق في سياسات الطائفية، واستبعاد السنة، ومتخمة بالفساد.
مع حلول العام 2010 أصدر تنظيم "دولة العراق الإسلامية" مراجعته للموقف، وكشف عن رؤيته المستقبلية للتعامل مع الأحداث في العراق مع اقتراب موعد انسحاب القوات الأمريكية، فقد أصدر وثيقة مطلع عام2010 بعنوان "خطة استراتيجية لتعزيز الموقف السياسي لدولة العراق الإسلامية"، يقدم فيها رؤيته حول الأسباب الحقيقية وراء ظهور الصحوات، وتشير الوثيقة إلى أن التنظيم تأخر في قتالها بحجة الحاضنة الاجتماعية، كما أدانت الوثيقة اتهام فصائل المقاومة الوطنية للتنظيم بالإتيان بتصرفات خاطئة أدت إلى ظهور الصحوات، واتهمت الفصائل الوطنية بأنها باتت مرتعا "لتفريخ الصحوات"، وتعترف الوثيقة بتراجع نفوذ التنظيم وسيطرته في كثير من المناطق، كما تتهم الولايات المتحدة بشن "حرب قذرة"، تضمنت القيام بتفجيرات في الأسواق والمحال العامة والمساجد وقتل المخالفين للدولة وإلصاقها بـ "دولة العراق الإسلامية".
تتحدث الوثيقة عن نجاح استراتيجية "دولة العراق الإسلامية" في ضرب الصحوات، الأمر الذي أدى إلى تراجعها وانحسارها، كما تشير إلى أن تنظيم الدولة بدأ يستعيد نفوذه وسيطرته تدريجيا. إلا أن الغرض الأساسي للوثيقة هو وضع استراتيجية للتنظيم لمرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي، وقد وضعت الوثيقة خمسة أعمدة لهذه الاستراتيجية وهي: السعي الجاد لتوحيد الجهود، والتخطيط العسكري المتوازن، وتأسيس مجالس الصحوة الجهادية،, العناية بالرمز السياسي، وطمأنة المخالفين.
ويعتبر مبدأ التخطيط العسكري المتوازن، أحد أهم بنود الخطة الاستراتيجية لتنظيم الدولة الإسلامية، فالخطوط الأساسية الأبرز تستند إلى أن القوات الأميركية قد أجمعت أمرها على الرحيل، ولم تعد تطيق البقاء في العراق، وعلى هذا الأساس تدعو الوثيقة لتركيز الجهود على استهداف من أسمتهم الأعداء الداخليين، إذ تضع ثلاث مبادئ: 1 ــ مبدأ "تسع رصاصات على المرتدين ورصاصة على الصليبيين"، باستهداف قوات الجيش والشرطة، ونشر الرعب لمنع مزيد التجنيد في صفوفها، 2 ــ مبدأ "التطهير" بحرمان القوات العراقية من تحقيق مراكز وتجمعات ومقرات دائمة، بتطهير الأرض وتشريد العدو، 3 ــ مبدأ "سياسة الاستهداف" بالتركيز على القوات الأكثر تأهيلا من النخبة، والرموز السياسية الفاعلة.
عقب خروج القوات الأمريكية من العراق عام 2011، وهيمنة المكون الشيعي على الحكم وإصرار المالكي على سياسات إقصاء وتهميش السنة، وعدم إدماج الصحوات بل ملاحقتهم واعتقالهم، حدثت تحولات عميقة في تصورات ومنظورات السنة تجاه العملية السياسية، وبدأت الحراكات والاحتجاجات في المحافظات السنية تتواتر وتتصاعد، الأمر الذي استثمره تنظيم الدولة للبرهنة على صواب نهجه الهوياتي ونجاع استراتيجيته القتالية.
بالتزامن مع تمدد تنظيم الدولة الإسلامية في
سوريا، كان التنظيم يوسع مناطق سيطرته ونفوذه في العراق، فقد بدأ عقب مقتل رئيس المجلس العسكري للتنظيم أبو عبد الرحمن البيلاوي في 4 يونيو/ حزيران2014، الذي فجر نفسه في الموصل بعد أن حاصرته قوات عراقية، بشن هجوم واسع أسفر فجر الثلاثاء 10 يونيو/ حزيران، 2014، عن سقوط مدينة الموصل في محافظة نينوى بيد التنظيم، وبدأ يعيد بسط نفوذه وسيطرته التي كان يتمتع بها عام 2006، ففي خطاب أبو بكر البغدادي، الأول بعنوان: "ويأبى الله إلا أن يتمَّ نوره"، في يوليو/ تموز 2012، أعلن عن بدء خطة جديدة للتنظيم باسم "هدم الأسوار"، وبعد مرور عام عن الإعلان عن خطة "هدم الأسوار"، بات التنظيم قوة ضاربة، وقد توجت الخطة في 21 تموز/ يوليو 2013، بشن هجوم مزدوج على سجني "أبو غريب"، الذي يقع غرب بغداد، وسجن التاجي في شمالها، وأسفر الهجوم عن تهريب قرابة ستمائة سجين بينهم عدد من كبار قادة التنظيم.
مع الإعلان عن انتهاء خطة "هدم الأسوار"، دشن التنظيم خطة جديدة تهدف إلى السيطرة المكانية على المحافظات السنيّة في العراق، والتمدد والسيطرة على المحافظات السورية، وقد أطلق التنظيم على الخطة الجديدة اسم: "حصاد الأجناد"، في 29 تموز/ يوليو 2013، وكان تنظيم دولة العراق الإسلامية يشهد تطورا كبيرا في حقبة أبو بكر البغدادي، وتؤكد الأشرطة والمواد الدعائية التي تصدرها المؤسسة الإعلامية التابعة له "الفرقان"، على التحول الكبير في بنيته وقدراته الفائقة، وتكتيكاته العنيفة، وطبيعته الهوياتية، واستراتيجيته القتالية المرعبة، فقد أصدر سلسلة من الأفلام المتقنة، أطلق عليها "صليل الصوارم"، بدءا من صليل الصوارم (1) تموز/ يوليو 2012، وصليل الصوارم (2) آب/ أغسطس 2012، وصليل الصوارم (3) كانون ثاني/ يناير 2012، ثم صليل الصوارم (4) أيار/ مايو 2014، وتتضن هذه الأفلام سلسلة متنوعة من العمليات النوعية والوصايا الجهادية، وتتضمن الإصدارت دعوة الصحوات والقوى السياسية السنية للتوبة.
لقد عمل تنظيم الدولة الإسلامية على تطبيق خطته الاستراتيجية بصورة واضحة منذ سيطرته على الموصل، وخصوصا تلك المتعلقة بالصحوات، فقد قام التنظيم في آب/أغسطس، بإعدام أكثر من 700 شخص من عشيرة الشعيطات في محافظة دير الزور في شرق سوريا، الأمر الذي تكرر في 24 تشرين أول/أكتوبر بإعدام أكثر من 381 شخص من أبناء عشيرة البونمر في محافظة الأنبار غرب العراق، ولا تبدو اختيارات تنظيم الدولة عشوائية في عقاب أشد الصحوات عداءً للتنظيم فهو يبعث رسالة مخضبة بالدماء للصحوات الأخرى من البو عيسى بعامرية الفلوجة، والجبور في الضلوعية، وعشائر المركز في الرمادي، والجغايفة في حديثة وغيرها. وفي ظل اختلال العملية السياسية في العراق وسوريا وتنامي الطائفية وإعادة بناء السلطوية، فإن نجاح الخطة الإمبريالية الأمريكية في بناء الحرس الوطني السنيّ والقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية لا يخرج عن كونه أمنية بعيدة المنال.