لم يكن "أ.ج" يفكر، وهو يقضي سنوات حكمه العشر في سجون النظام بأن يجلس مع "عدوه" الذي كتب فيه تقريرا وكان سببا في سجنه، في عزاء ابن الأخير الذي قتل وهو يقاتل في صفوف النظام، كما لم يكن يتوقع أن يناقشه حول الواقع الراهن، خاصة أن كليهما ينتميان لقرية واحدة في ريف
اللاذقية.
يقول "أ.ج": "جلسنا بعد صراعٍ دام ثلاثين عاماً، لم يكن تقليديّاً كأي صراع بين رجلين ينتميان لقريةٍ واحدة، كان صراعاً سياسيّاً بحتاً"، مبينا أنه "منذ ثلاثين عاماً كانت القريّة تعجّ بشعارات
البعث، وكنت أنتمي لحزب ثوري يرفض الاستبداد والديكتاتوريّة، لكنّ "م.م" كان مديراً لمدرسة القرية وأميناً للفرقة الحزبيّة العائدة لحزب البعث".
ويشير "أ.ج" إلى أن "م.م" كان يكتب التقارير عنه حتّى انتهى الأمر باعتقاله مدة عشر سنوات قضاها في سجون الاستبداد كسجين رأي، بينما راح "م.م" يترقّى في مناصب البعث لولائه المطلق للبعث ولنظام الاستبداد، حتى وصل به إخلاصه الشديد وكيده لكل المعارضين وعوائلهم لمنصب رفيع في فرع الحزب، كما أنّه جمع حوله ثلّةً من المتنفّعين مطعّمين ببعض المشايخ ليُحكم سيطرته على القرية.
يقول "أ.ج": "خرجت من السجن فاقداً عملي وجميع حقوقي المدنية والعسكرية، ورحت أكدح ليلا نهارا علّي أحظى بمن ترضى بي زوجاً، أملاً مني في تكوين أسرةٍ بسيطة لأربي أطفالي على مبادئي التي دفعت من أجلها جلّ أيام الشباب. لكنّ "م.م" لم يتركني بحالي، فقد راح يتتبع أخباري ورفاقي في القرية ويضع العثرات في وجهي، متسلّحاً بمنصبه وبسطوة النظام الذي يحميه، ومع ذلك وجدت فتاةً آمنت بي وبمبادئي، وراحت تساعدني في تأسيس منزلي الصغير".
يتابع: "استمر الصراع غير العادل والقذر إلى أن انطلقت الثورة في سورياK فقد كنت حينها أقطن في القرية، ولم تكتمل فرحتي ببداية أفول نظام الاستبداد حتّى بدأت مضايقات أهالي القرية لي بإيعازات مباشرة أو غير مباشرة من "م.م" وأعوانه في القرية، لكنّني صمدت ولم أترك قريتي وأهلها، ولم أتراجع قيد أنملةٍ عن أفكاري وساعدني في ذلك حبّ رفاقي لي وإيمانهم بأنّني على حق".
ويوضح "أ.ج": "كان "م.م" يودّ أن يسدد ضربته القاتلة لكل معارضيه في القرية وحتّى في المنطقة، لكنّه لم ينجح هذه المرّة، وانقلب الأمر عليه، فابنه ذو الثلاثين ربيعاً كان ضابطاً في جيش النظام، وكان هو الآخر يصدّق كلام أبيه، حيث أنّ "م.م" كان يغالي في كذبه ودجله ليَظْهر أكثر الناس موالاةً للنظام. فوقع الابن ضحيّة دجل أبيه وتطوّع للقتال على إحدى الجبهات طوعاً منه وقتل هناك".
ذهب "أ.ج" ورفاقه لعزاء "م.م" بولده، وبداية ظن "م.م" بأنّهم جاؤوا للشماتة على حد قول "أ.ج"، "لكنّهم ذهبوا ليفتحوا صفحةً جديدةً وليبدأوا صراعاً أكثر رقيّاً، لكنه عاملهم بجفاء، وذلك لم يكن بالجديد عليه، فهو معروف بتسلّطه حتّى على أقرب المقربين له، فيومها كان ما زال يشعر أنّ النظام سينجو من الثورة".
يوضح "أ.ج" أنه مع مرور الأيام راحت السلطة تنهار في عقل "م.م" شيئاً فشيئاً، وبات يشعر أنّ نهاية الحقبة التي مارس فيها سطوته على الناس باتت قريبة، وعند وفاة ولده منذ شهرين تقريباً حضرت إلى منزله معزيّا، وجلسنا على انفراد، وكان حديثنا مقتضباً، كما عبر "م.م" عن ندمه على الحقبة الماضية، واعترف بأنّه لم يعد للبعثيين شيء في هذه البلاد. حينها سألته: لماذا قُتل ولدك؟ ولأجل من؟ هل صدّقتم ما تكذبونه على الناس أم أنّ ولدك صدّقك؟ هل تظنّ أنني سعيد لمقتل أي شاب، ولو حتّى كان ابنك أنت؟، أقسم لك لو متّ لحزنت عليك" حسب تعبير "أ.ح".