لم تكن الهجمة
الإسرائيلية الأخطر، ضد مدينة القدس (مواطنين وممتلكات ومقدسات)، قد حصلت هكذا أو من تلقاء نفسها، بل هي مؤسسة على قواعد وأركان مُحكمة، والتي ترتكز على مجموعة الأفكار والمعتقدات والنزعات الدينية المتنامية باتجاه ضرورة إعادة بناء
الهيكل المزعوم، وجاء تسريعها في ضوء النتائج القاسية لمجموعة التراخيات العربيّة والإسلامية البائنة بشأن عقيدتها الوطنية والدينية، فعلاوة على مواقفها الضعيفة والمُخزية غالباً بشأن القدس وسواءً سياسةً وماليّة، فإن هناك جهات من بينها تدعم بقصدٍ ولأغراضٍ أخرى، باتجاه إتمام السيطرة الإسرائيلية عليها كعاصمة موحّدةٍ لها، وكأن كل دعم عربيٍ نظنّه غادر وربما من المنشأ إلى الجيوب الإسرائيلية.
فمنذ أن بدأت إسرائيل احتلالها للقدس عقب انتصارها في عدوان عام 1967، الذي اعتبرته نصراً دينيّاً، وبرغم التنبيهات المتواصلة باتجاه الكل من العرب والمسلمين، بأن الأخطار الإسرائيلية تحيط بالقدس من كل جانب، وبأنها في خطر وأقصاها في خطر، لكن لا أحد يستجيب كما ينبغي، وكأن المسألة لا تمثّل الخطورة ذات القيمة المُوجبة للوقوف بشأنها، وكأن القدس يمكن مبادلتها بأرضٍ أخرى، وأن الأقصى يمكن الاستعاضة عنه بألف صلاة في المنزل، ويدل على ذلك، بأن جهات عربية وإسلامية وحتى فلسطينية ساومت على التخلي عن حقوق في القدس والأقصى.
خلال الفترة هذه، أخذت الهجمة الإسرائيلية ضد القدس، مسارين شرسين ممنهجين، أحدهما يُكمل الآخر، وكما غير السابق من حيث العنف والشِدّة، وبغض النظر عن ممارسة التمييز والعنصرية القاتلة، ضد السكان المقدسيين أو الحملات الإعلامية الكبيرة والواسعة التي تقوم على مهمّة التحريض ضد سكانها بعامّة.
فإن المسار الأول: أخذ شكل الاستيلاء على الأراضي والإعلانات الحكومية عن بناء المزيد من الشقق السكنية داخل المدينة وفي أنحائها، وبالمقابل القيام بهدم منازل، ومنع مقدسيين آخرين من البناء الطبيعي، بل تجاوزت النشاطات الإسرائيلية إلى محاولات شراء وتملّك منازل ومنشآت مباشرة، وبطرق التفافية أيضاً، داخل الأحياء العربية في القدس العتيقة، في سلوان والشيخ جراح وغيرها من الأحياء والبلدات المقدسية بهدف تحويلها لاحقاً إلى بؤر استيطانية كأمرٍ واقع، لكن يجب علينا حول هذا الأمر، ذِكر أن من اللازم مراقبة أنفسنا في من يبتع؟ وكيف نبيع؟ ولمن نبيع؟ ولماذا البيع أصلاً؟ وحتى في ضوء عِلمنا بمسألة البيع بأنها تقوم على الخداع فلماذا تتكرر عمليات البيع؟
والثاني: يتمثّل في هجمةٍ أقوى باتجاه المسجد الأقصى، فقد كانت هناك مؤشرات صارخة باقتراب تحقيق الإسرائيليون نواياهم بشأن بناء الهيكل، بدءاً بالتهديدات التي تقول بضرورة هدمه وبناء الهيكل، ومروراً بالموجات العارمة بما فيها الاقتحامات وزيادة حِدّتها، حتى أصبحت يومية وبرضى الحكومة ومُرافقة الجيش لها، وانتهاءً ببروز النوايا كحقائق أمام أعين الكل، بشأن التقسيم الزماني والمكاني للأقصى بين اليهود والمسلمين، سيما وأن إجراءات إسرائيلية بدأت في أحايين كثيرة بشأن الحد من دخول المسلمين إليه.
يهدأ الكثيرون، حين يهمس رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتانياهو" بأن لا نوايا إسرائيلية في التقسيم، أو ما يُمكر به، بأن ليس لديه قبولٌ كافٍ في شأن الاقتحامات اليهودية للأقصى، لكنه كاذب على أي حال، فهو من جهة لا يريد أن يمنع، ومن أخرى لا يستطيع المنع وهذا أسوأ، كما أن من الحاخامات الذين يرفضون الممارسات الدينية المختلفة داخل الأقصى، هي لا تصب في صالحنا بسبب أنها مُغرضة، وأقلّها لديهم بأن الأوضاع ليست ناضجة بعد.
لم تكن المحاولات الفلسطينية - الضعيفة إلى الآن أساساً- إزاء الهجمة الإسرائيلية المارقة، وسواء العمليات الاحتجاجية أو عمليات متقدمة أخرى، كعملية الدهس التي قام بها الشهيد "عبد الرحمن الشلودي" أو محاولة الاغتيال ضد المتطرف الصهيوني "يهودا غليك" التي قام بها الشهيد "مُعتز حجازي"، لم تكن جاءت عن وسعٍ أو عن طيب خاطرٍ، بل جاءت نتيجة أن لا أحد بين العرب والمسلمين ينوب عن الفلسطينيين، أو يقوم بمساعدتهم على الأقل، ولا يوجد في المكان من يستمع إلى النداء الأخير.
"غليك" الموصوف بأبي الاقتحامات ورأس التشدد والمنسق الرئيس لجولات اليهود إلى المسجد الأقصى، لم يكن خارجاً من بيته إلى ملهىً ليليٍ أو كازينو أو إلى مدينة ملاهي ليقضي ويلهو، بل كان خارجًا للتوّ إلى العمل، بعد انتهاء أعمال المؤتمر السنوي السادس للباحثين عن صهيون، لتشجيع الحجيج إلى باحة المسجد الأقصى، والذي حمل عنواناً واضحاً (إسرائيل تعود إلى جبل الهيكل)، وكان حضره أعضاء في الحكومة والكنيست الإسرائيليين، والعديد من قادة منظمات الهيكل المزعوم، ورؤساء لجمعيات ومنظمات متطرّفة أخرى، فهل ورد بأن العرب بادروا إلى اجتماع وإبداء مواقف حاسمة؟ ليعود المسلمون إلى الأقصى؟
من الآن فصاعداً – ربما- لا يستطيع كل من الرئيس الفلسطيني "أبو مازن" الذي استبعد قيام انتفاضة ثالثة، أثناء لقائه مع القناة العاشرة الإسرائيلية، أو "نتانياهو" الذي تعهّد خلال إحياء ذكرى اغتيال "رحبعام زئيفي" باحتواء التوترات الحاصلة في الأثناء، أن يوقفا احتجاجات المقدسيين المتزايدة وربما الفلسطينيين بعمومهم لاحقاً، بسبب أن معركة القدس تجاوزت عندهم بكثير، جميع المسائل السياسية وحتى الاقتصادية، وانتهت لديهم على أنها معركة دينيّة.