كرس الانقلاب الذي حدث في الثالث من يوليو تناقضا خطيرا أصبح يتحكم في قلب المعادلة التي تجعل بين خطابه وسياساته فجوة بل هوة كبيرة تؤدي به إلى هذا التناقض القاتل، فإذا بخطابه يتراوح بين صناعة المخاطر وبين الرغبة في توطيد انقلابه واستقرار حكمه، حيث أن اصطناع الخطر يقوم على قاعدة من ترويج عدم الاستقرار والفوضى والتهديد بعدو مقيم وافتعال أزمات حتى يتم تضخيم ذلك الإحساس بالخطر كمنطلق يحرك اجتماع الناس بتفزيعهم وشعورهم بالتأزيم المستمر وطلب الاستقرار، وتمرير كل ما يتعلق بسياسات البطش والاعتقال وكل أعمال الاستبداد والطغيان.
بينما في المقابل نجد خطابات وسياسات أخرى تتناقض مع صناعة الخطر والمواقف حينما تكون هناك رغبة من تلك المنظومة الانقلابية في فرض حالة من الاستقرار تمكنه من إضفاء شرعنة على اغتصابه للسلطة والسلطان وتسويغ كل ما يتعلق بسياسات الظلم والطغيان حتى لو كان ذلك الاستقرار الذي يطلبه استقرارا كاذبا زائفا أو قسريا وجبريا يحقق به الصورة المطلوبة عالميا في محاولة لاجتذاب الاستثمار كعنوان لحالة الاستقرار.
بين هذا وذاك يبدو ذلك التناقض القاتل المريب بين عمليات
التخويف بالخطر وعمليات ادعاء الاستقرار في إطار من شرعنة لسلطانه، هكذا كان الخطاب منذ أول لحظة - حينما بدا هذا الأمر في التجهيز للثلاثين من يونيو-، إذ اجتمع كل هؤلاء على معاداة
الإخوان وشيطنتهم وتحويلهم إلى تجار بالدين يقومون بكل عمل للإضرار بالوطن وأمنه القومي، فمنذ البداية خرج علينا المنقلب يطلب تفويضا بمواجهة إرهاب محتمل لا يزال يشكل في خطابه مناط شرعنته ومحاولة تبرير اغتصابه للسلطة الشرعية واختطافه لرئيس منتخب، وتارة يكون الحديث عن استهداف لأمن
مصر واستهداف العالم الإضرار بها من كل مكان، حتى أن بعض أجهزة إعلامه التعبوية وأذرعته الاتصالية قد تطرفت في ذلك فاصطنعت من القصص ما اصطنعت، وتحدثت عن أسر قائد الأسطول السادس الأمريكي في عرض البحر ضمن بطولات متوهمة تحاول من خلالها الجمع بين البطولة الكاذبة واصطناع الخطر الزائف.
وها هم بعد ذلك ينتقلون إلى خطر في ليبيا تتورط فيه مصر من أقرب طريق فتستمر مبررات اصطناع الخطر والتهديد المستمر بأمن مصر القومي، وها هو في ذا الوقت ينضم إلى تحالف ضمن عملية اصطناع الخطر هذه المرة على قاعدة دولية لمهاجمة ما أسموه بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، كلها تصطنع بيئة المخاطر وبيئة الخوف المقيم وتهديد الأمن كل حين، وضمن هذه الصورة يترافق مع اصطناع الخطرخطاب مخادع يحاول من خلاله أن يُصَدر للناس ويُحذر أن حال مصر أفضل من سوريا والعراق، ويحاول أيضا ضمن اصطناع هذه الصورة أن يجعل الخطاب السياسي متماهيا مع خطاب إعلامي رغم عدم عقلانيته وتهافت حججه ومزاعمه.
إلا أنه من غير أن يدري أو لا يدري جعل الأمر ينال من صورة الاستقرار في الداخل والخارج خاصة مع تلك الأحداث التي تتوالى في إطار عمليات طالت أرض سيناء لا يعرف لها من نتائج حقيقية يمكن أن توفر معنى الأمن والأمان ، مع وعود متكررة كاذبة بأنه سيتم القضاء على كل ما يهدد الاستقرار في سيناء، وبعد مرور أيام من كل تصريح تأتي عملية استهداف خطيرة للجنود على أرض سيناء وفي كل مرة يأتي الخطاب مكرورا معادا حتى صار محفوظا "من أن هذا الحادث أو ذاك لن يمر بدون ثأر أو انتقام".
مجمل الالتباسات في هذه الصورة أن تختلط الخطابات والسياسات والحسابات من قبل المنظومة الانقلابية حينما تتحدث بخطاب شديد التفاوت ينقض بعضه بعضا، وتنسخ كثير من خطاباته السابقة، فهل هو يريد صناعة الخطر فيخوف؟!، أم يريد صناعة الاستقرار فيختفي خطاب التخويف واصطناع الخطر؟!، إنه في أزمة حقيقية تتنازعه المفردات والخطابات والسياسات فيحدث ذلك الاختلاط والالتباس، فتبدو خطاباته كحالة عشوائية لا يمكنها حتى أن تكرس استقرارا زائفا خاصة مع استمرار الاحتجاجات في الشوارع والجامعات، لتؤكد أن اصطناع شرعنته أمر بعيد المنال، وأن استمراره في قمعه إنما يصدر صورة في الخارج حول انتهاك وانهيار حقوق الانسان في مصر، هذا المناخ الذي يشكل حالة عشوائية إنما يحمل ذلك التناقض القاتل بين التخويف بالمخاطر وبين استقرار مرغوب حتى لو كان زائفا كاذبا.
وفي كل تلك الصور التي تحمل تزييفا للخطر يغيب الخطر الحقيقي الذي تمثله إسرائيل وانتهاكاتها المتكررة واقتحاماتها لباحات المسجد الأقصى من دون أن تنطق مصر الرسمية بأي بيان أو تصريح حول هذا الشأن وكأنهم يستبدلون هذا الخطر الحقيقي بخطر واهم زائف مصطنع على نحو متعمد.
ويترافق مع هذا الأمر الذي يتعلق بهذا التناقض القاتل خطابات من الاتهام الباطل تقوم بها المنظومة الانقلابية لتبرير قعودها أو تقصيرها وتغطية فشلها أو انحرافها أو لتمرير سياسات ظلمها وطغيانها أو لتكريس حماية مصالحها الدنيئة وفسادها، عمليات بعضها من بعض تتحرك ضمن خطاب سياسي وإعلامي مقارنا لكل أزمة، وحينما يتوالى الانتقاد لأوضاع مأزومة مع بروز مشاهد الفشل فإن الاتهام الجاهز الباطل في مضمونه والفاشل في تأثيره "إن هذا الأمر وراءه الإخوان"، مستثمرا كل ما قام به من شيطنة ومحاولة إلصاق كل نقيصة بالإخوان ، رغم أن ذلك يتعلق بشكل مباشر بإنجاز الحكومة ووزاراتها وليس بالإخوان وتأثيراتها، فمثلا سنرى هؤلاء يتحدثون مع كل أزمة كهرباء أن الإخوان وراء ذلك، وأن السيدة التي طردت من المستشفى لتضع حملها على قارعة الطريق من دون أي مسئولية أو حتى شعور بالذنب في تقدير مكانة الإنسان وكرامة النفوس، فها هي الآلة الإعلامية تتفتق عن اتهام باطل بأن هذا المشهد كان مدبرا من جهات إخوانية، إلا أنهم بعد ذلك فضحوا أنفسهم حينما اتخذ وزير الصحة قرارا بإقالة مدير مستشفى كفر الدوار الذي لم يستقبل هذه السيدة.
وآخرين يلقى بهم في نهر الطريق بجوار المهملات أو على الرصيف لأن المستشفى لن تستقبلهم فإذا بالإعلام يتحدث أن هذا لم يكن إلا من تدبير الإخوان، وكأن الإخوان صاروا مسئولين مقدما عن كل فشل وتقصير وعن كل انحراف وفساد، وحينما تحدث تفجيرات ولم يعقبها في حقيقة الأمر أي تحقيقات جدية ولا نرى فيها إلا إقامة الجنازات ، فإن أول المتبادر على الأذهان أن يتهم كل مسئول: "الإخوان" أو أصابع إخوانية وراء هذا التفجير أو ذلك التدمير أو سقوط الضحايا ، ويمر الحادث تلو الحادث بلا تحقيق وبلا نتائج وفي كل مرة يقول هؤلاء "لن يفلت الجناة".
سواء كان هذا التناقض القاتل الذي يتحكم في منظومة الانقلاب خطابات وسياسات وممارسات وسواء أكانت تلك الفبركات من سلسلسة الاتهامات التي تعبر عن محتوى باطل لا يقويه سوى إعلام فاجر تاجر يقوم بتسويق وترويج الأكاذيب والأباطيل، تأتي هذه البيئة كلها لتعلن ببيان واضح "أن هذا الانقلاب فاشل فاشل"، "وأن ما تبعه من سياسات ومن ممارسات باطل باطل "...فشلكم كبير وحالكم خطير وحسابكم عسير.